نُشر من قَبل في المدوَّنة السابقة بتاريخ 26 فبراير 2019
أستطيع أن ألاحظ ظاهرةً واضحةً للغاية حاليًا: (الهولوكوست النسوي)!
بدأ الأمر عبر قراءة واقع السوشيال ميديا وصناعة الرموز والتريندات، بل قراءة الواقع الثقافي، حيث يعلم كلُّ من يشارك به بشكل ما أن الثقل الأنثوي -كشريحة مستهلِكة- ضخم جدًّا ويمثل الأغلبية. يمكنك أن تدرك أن أغلب من يشتري الكتب (والروايات خاصة) وزوار المعارض من الإناث. ويبدو أن هناك خصيصة لدينا معشر الذكور هي ترجيح الكتاب المضروب والمزور، والاستثمار في كتاب لا يمكن الاستغناء عنه (ببساطة: مش حنجرب في فلوسنا!)
وعلى السوشيال ميديا التي من طبيعتها الثرثرة والتشويق والريأكشن، تفوز الأنثى بالنصيب الأكبر من صناعة الحراك واستهلاك المنتج المطروح، وبالتالي أصبحت النساء هن من يصنعن الرموز ويحققن الرواج ويُنشئن التريندات ويَحكمن بالنجاح بإيثارهن كتابًا ما أو روايةً ما أو حتى كاتبًا ما.
حتى إن أحد مالكي دور النشر أخبرني يومًا أن من أراد النجاح فعليه أن يستهدف فئة البنات (من سن السادسة عشرة إلى الثلاثين سنة) ويركز على قضاياهن وما يُردن سماعه!
ويمكن لكل من ينشط على مواقع التواصل أن يشهد الفروق الضخمة بين منشور يكتبه يمكن أن يمس تلك الفئة ومنشور آخَر بعيد عنها وعن قضاياها.
ودون وعي يبدأ تشكُّل الكاتب من هنا؛ رؤيته وزاوية نظره وطبيعة المواضيع التي يتناولها، حيث تجد نوعًا من المكافأة متمثلةً في الحفاوة والتصفيق (والتعليقات والشير وعدادات المتابعين المتصاعدة) في أنماط بعينها من اللغة والموضوعات، ولا تجدها في أنماط غيرها، فلا عجب أن يتشكَّل السلوك تبعًا لذلك، متمثلًا في كتابة كاتب أو اختيار موضوعات الفيديوهات وغير ذلك من أشكال نشاطاتنا على السوشيال ميديا وفي الوسط الثقافي!
بل إن بعضنا (وأنا منهم) مثلًا يجد نفسه مع الوقت -دون وعي- يتم مسخه ويتحول إلى شخص غيره أو على الأقل يتم تقليم أظفاره ووضع سياج لِما يتطرق إليه، بحيث ينال دومًا إعجاب تلك الفئة دون أن يدري! لم أفطن للأمر سوى متأخرًا حين شاهدتُ العطر الحريمي يفوح من عدادات المتابعين!
ستجد الأمر يتكرر لدى الشيخ الداعية، ولدى المثقف ولدى الكاتب، ولدى الطبيب ولدى التربوي، وحتى لدى الكوميديان الساخر!
ومن هنا بدأ يظهر نوع من (الفلتر) الذي يخلق الرموز ويتحكم في السوق ويحدد أي الموضوعات التي تنال الرواج الأكبر، وبالتالي تم إفراز ظاهرة “كتب العلاقات” مسيطرًا أكبرَ على معرض الكتاب لهذا العام. (وأنا ممن ساهموا في هذه الظاهرة بكتاب “أحببت وغدًا” الذي وصل لطبعته السابعة في شهرين، وبالتالي أنا منتفع منها، لكن الأمانة الصارمة التي قررتُ اتباعها تقتضي أن أُخرج ما لديَّ بما أستطيعه من تجرد).
ولما كانت هذه الفئة (البنات في هذا السن) تحديدًا تحيا عصرًا أُسميه (وليعذرني البعض): اللطمية الأنثوية، وهي بكاء نسوي جمعي على عصور الاستبداد الذكوري وعفن التحيز، أصبحت النغمة السائدة حاليًا: “تمكين المرأة” و”التحرر من إيذاء الرجل”، حتى وصل الأمر إلى نغمة شيطنة مفرطة للرجل وتعميم صارخ كأن الرجال جميعهم أصبحوا مدمرين ومسمومين.
وهنا بدأ الأمر يخرج عن السيطرة، فنحن لا ننكر أن من الرجال من هو مؤذٍ ومدمِّر وسام، أبًا وزوجًا وأخًا وحبيبًا، وأن المعاناة التي تحياها الإناث تحت وطأة هذا القمع والألم قادرة على تشويه كل جميل فيها وتحطيمه، بل تمزيق صورتها عن ذاتها وعن الحياة وعن المستقبل، وعن الله أحيانًا! إننا نعترف بكل ما حدث، ولم يزل يحدث، من قمع وجنون وخروج عن الإنسانية.
لكن الأمر قد دخل حيز التعميم المفرط والمزايدة المرهقة؛ بدأت عصور القمع الذكوري تُصوَّر على أنها مَحرقة (هولوكوست) قام بها الرجل المؤذي، وأحيانًا عصور مؤذية بأكملها، ضد المرأة. (الهولوكوست هي المحرقة التي اقترفها هتلر في حق اليهود، وإنكارها حاليًا جريمة تندرج تحت معاداة السامية في الغرب)، وهنا بدأت الخطورة؛ فكل تشكيك في التعميم يتحول إلى كونه تشكيكًا في تلك المحرقة، وكل محاولة للدفاع أو الاشارة إلى خُلق أنثوي سلبي -ولو على سبيل المزاح- يتحول إلى تهمة تشبه تهمة معاداة السامية في الغرب.. تهمة إنكار المحرقة الأنثوية!
وكل شخص يحاول أن يَخرج خارج هذا الإطار العام والجمعي الذي يوجِّهنا جميعًا نحو استنقاذ المرأة وتعويضها -أحيانًا لدرجة مبالَغ فيها- عن عصور لم نكن المتحكمين بها، وعن إيذاءات لم نقترفها بأنفسنا، يتحول إلى وصمة “الذكوري المتعفن”!
كل نداء ذكوري يُخرجه رجلٌ ما بأنه ليس مضطرًا لأن يدفع فاتورة شيء لم يرتكبه، أو يقضي عقوبةً ما على جرم لم يكن سببًا فيه، يتحول إلى سِباحة ضد التيار السائد.
أصبح الجو مفعمًا برائحة النضال الأنثوي: من إشكالية الحجاب مرورًا بالعلاقات المؤذية. العلاقات المؤذية التي تم تفريغها من مضامينها بفعل هذا التشكيل اللاواعي من حفاوة الشريحة المتحكمة في الوسط الاجتماعي والثقافي، لتصبح عبارة “العلاقة المؤذية” تعني في اللاوعي الجمعي ببداهة: “رجل مؤذٍ وفتاةٌ جريحة!!”
لا يمكنك أن تتحدث عن امرأة مؤذية أو عن استهلاك الرجل أحيانًا في العلاقات؛ يجب أن نبقى نتحدث عن الرجل “أبو عين زايغة”، والتعددي، ومحاولاته أن يمارس اشتهاءاته دون رابط.
لا يمكنك أن تتحدث عن “العهر المتقنع بثوب الفضيلة” ومحاولة مريضة من أنثى ما أن تكون دومًا مَحط اشتهاء ورغبة جنسية تعددية، وإلا ستجد أسواط تهمة التشكيك في “الهولوكوست النسوي” تنال منك فورًا، وستسمع حينها صفعات التعميم “أنت راجل معقد!” مع كون مرض الاشتهاء التعددي الذي قد يصيب رجلًا ما يوازيه مرض تعددي موازٍ قلَّما نتعرض له “الهوس بأن تكون محطًّا للاشتهاء” الذي قد يصيب أنثى ما، وكلاهما يحتاج إلى علاج وإشارة وكسر للإنكار وتحطيم للتبريرات! السلوك التعددي الذكوري يوازيه لدى بعض النساء سلوك إغوائي تعددي أنثوي، كلاهما يحتاج إلى فض المحركات التي تؤسس له داخلنا؛ أمراض العلاقات المنافية للحصرية الصحية المختارة الواعية بين الطرفين قد تصيب أيهما!
الرجل اندفاعي الغضب لا يقل إيذاءً عن الأنثى الكاذبة!
الأب صاحب النزوات لا يقل جرمًا على أطفاله عن الأم دائمة الانتقاد!
هل يمكننا أن نحارب التسليع بالمجانية!
دعنا من هذا ولنعد إلى منطلقنا الأساسي، أنا أحد هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم مع الوقت يُسهمون في صناعة الجو العام، ويعززون حالة النحيب الأنثوي و”كربلاء المذبحة النسوية”، ويُسهمون في تشكيل ثقافة المَحرقة، وهذا الأمر وإن كانت له مكاسبه المؤقتة فإن له على المستوى الروحي والعقلي آثارًا جانبية بالغة؛ فهو يوجِّه لسانك وقلمك ويبدأ في تحويلك من كاتب إلى متعلِّق بالسوق ومقتضيات الرواج، ومن طبيب إلى مطيباتي!
تجد نفسك تزيح عن قلمك ما يشغلك حقًّا وما يَمسُّك أنت على المستوى الإنساني نحو ما يَمس الشريحة المتحكمة في سوق الرواج وصناعة الرموز ونجاح الكتابة!
دعني أكون أكثر جرأةً وأصنع نحيبنا الذكوري الخاص: فأين يمكنك أن تجد كتابًا عن آلام الرَّجل.. عن قضاياه.. عن أوجاعه العصرية الخاصة؟ كيف يمكنه أن يُشكل ذكورته بمنأى عن متطلبات الصورة والضغط المجتمعي والأداء!
من يمكنه أن يحدثك عن الرهبة.. وعن الفتنة.. وعن انصهار القلب محاولةً للبقاء في حيز الأخلاق ونداءاتُ اللحم والوحل تنازعه؟
من يمكنه أن يتحدث عن قلق الأداء.. وعن طول القضيب.. وعن الأسباب المجتمعية لسرعة القذف!! من يمكنه أن يتحدث عن ألم مدمن إباحيات خرج الأمر عن سيطرته؟
من يمكنه أن يتحدث عن التحرش الجنسي بالأطفال (الذكور) وكيف يمكنه أن يصنع مأساة الصمت والخزي والتواري لشاب بالغ!
من يمكنه أن يحدثك عن الإخصاء النفسي الذي تمارسه بعض الأمهات المؤذيات تجاه أولادهن الذكور انتقامًا من أب قديم أو زوجٍ، فتحاول كسر دماغ الولد وقضم عناده وتهذيب ذكورته وصناعة الفتى المستأنس (ابن أمه)!
من يمكنه أن يحدثك عن وجع المطالبة.. وإرهاق السداد.. وعدم الأمان الاقتصادي الذي يؤرق مضاجع الرجال في أزمنتنا!
من يمكنه أن يعلن أن الهوس بالجنس ذكوريًّا هو في بعض الأحيان هرب تخديري من الخوف والخزي الذي يقابله في وحدته (تفسيرًا لا تبريرًا)!
من يمكنه أن يحدثك عن كلمات مُهينة تصنع أيضًا شروخًا بنفوس الرجال، يقضون زمنًا للتماسك والتصالب والظهور كأن كل شيء على ما يرام؟
من يحدثك عن الزهد في العلم الحقيقي.. ورواج الشائق.. وعن طاقات معطَّلة مخبوءة مهدورة من رجال لم تُصبهم الحظوة الأنثوية انتقائية الدعم!
ومن يحدثك عن أدعياء زائفين يبدون في مظهر الامتلاء وينالون المكانة والفرص لأنهم فقط يحسنون صنعة الكلام!
من يحدثك عن “قهر الرجال”.. وعن القلق حين يصيب رجلًا اعتاد ثقافة “الراجل مايخافش”، فيُضيف لوجع القلق دنسَ الخزي، فالخوف في حق الرجال عار وعورة! من يمكن أن يحدثك عن العجز.. والألم.. والحيرة.. والتبعثر..
من يحدثك أن نِسب محاولات الانتحار في النساء أعلى، لكن نِسب محاولات الانتحار الناجحة التي تؤدي إلى الموت الفعلي في الرجال أعلى كثيرًا من مثيلاتها في النساء؟
من يمكنه أن يحدثك عن الحق في الاكتئاب، والحق في المرض، والحق في الألم، والحق في الأنين، والحق في البكاء، والحق في الخوف، الحقوق التي تم تجريد الرجل نسبيًّا منها (وقد ساهمت فيه الأنثى الباحثة عن المنقذ البطل)!
من يمكنه أن يخبرك أن بعضنا لا يستطيع أن يكون “فارسًا أو “أميرًا أو “بطلًا خارقًا” ليُحقق لها أقصوصةً من أقاصيص ديزني الحالمة، وأن قوته الخارقة ومعجزته الحقيقية تكمن في أنه -ورغمًا عن كل شيء- يحاول الاستمرار والصمود ليوم آخر!
من يمكنه أن يحدثك عن شعور رجل ما بالضغط الاجتماعي أمام “كرشه” النابت مقارنةً “فورمة” أحمد عز.. وبين جسده المهترئ بالسعي وعضلات أحمد العوضي.. وتلعثمه وارتباكه مقابل تفوُّه المغازلات النزارية التي يلقيها ذوو الرواج على السوشيال ميديا!
لا يختلف كثيرًا شعورُ الرجل أمام تغزلات أنثوية ملتاثة باللعاب على مَظهر “ظافر العابدين” عن شعور المرأة أمام حفاوة ذكورية طافحة اللزوجة على منحوتة جسدية مفبركة يسمونها “هيفاء وهبي”! كلاهما يجعل الإنسان.. الإنسان.. يكره نفسه ويتقزز منها وينفر ويصيبه انعدام الأمان، لكن الفارق أن الرجل اعتاد الكتمان وتمت تنشئته على ادعاء اللامبالاة!
وفارق آخر.. أنك ستجد حفاوةً بالغةً حين تَسب الرجل الذي سال لعابه على هيفاء وهبي، لكنك لن تجد الحفاوة ذاتها حين تنتقد المرأة التي ملأت لزوجةُ سهوكتها صورة ظافر!
لا يعنيني من أمر اللطميات الأنثوية سوى شعوري الذاتي بأنه بشكل ما -عن قصد مني ودون قصد- تم تشكيل فكري وطرحي ليلائم الجو العام أو ليساهم في صناعة الجو العام؛ لاحظتُ هذا الأمر حين قررت أن أخوض تجربة الكتابة عن إدمان الجنس والإباحيات، وعن التعافي من الإساءات، وعن الأسى الذكوري، “ليس لهذا الأمر سوق يا فتى!” هكذا يُحدثني دماغي!
لكنني قررت أن أَخرج من العباءة التي حصرني فيها صانعو الرموز، وأتمرد على الدور الذي طالما سعيتُ لنيله (استحسان الجموع) والجموع حاليًا يمثلها رمزية “اللايك الأنثوي”، وأتحدث عمَّا لديَّ كما هو بما أوتيت استطاعتي من أمانة، وافق سوقًا أَم لم يوافق، ووجد مستمعًا أَم لم يجد!
الحقيقة أنني لا أُحب هذا الدور الذي وجدتُ نفسي أتحول إليه؛ ليس جيدًا مطلقًا أن تتحول من أن تكون “إنسانيًّا” إلى أن تكون “نسويًّا”، فليس أسوأ من الاضطهاد سوى الاضطهاد المضاد، وليس أكثر تشوُّهًا من التحيز سوى التحيز العكسي.
بقينا محتاجين خطاب متزن للنساء و الرجال ، اتمنى حضرتك تتكلم عن إزاي الانثي تستقر في أنوثتها و إزاي الذكر يستقر في ذكورته