بدايةً نحن نعلم الآن أننا لم نختر هذه المعركة، ولم يكن قرارًا واعيًا أن يكون الطعام هو مَهربنا الوحيد. ليس الأمر عن ضَعفاء أو خلل في إرادتنا كما اعتدنا أن نسمع. كنا فقط نحن نحاول أن نتكيف، أن نجد طريقة لتسكين ألم لم نفهمه بعد، أو كنا نحمله وحدنا بصمت، كانت طريقتنا معطوبة، نعم، وجنينا كثيرًا من الأضرار والخسارات، ومع كل ذلك لازال التغيير ممكنًا.
دعونا نفهم الأمر أكثر:
لماذا نلجأ إلى الطعام؟
إدمان الطعام لم يكن يومًا مجرد بحث عن اللذة والاستمتاع بمأكولات، ربما على العكس، يعرف كثيرًا منا أننا كثيرًا ما نبتلع الأطعمة دون انتباه لمذاقها! فالحقيقة أننا لا نأكل لأننا جائعون جوعًا جسديًّا حقيقيًّا بل لأن هناك جوعًا آخر يسكننا: جوع للراحة، جوع للسكينة، جوع للقبول، جوع للحب، جوع للامتلاء بشعور ما لا نعرف ما هو على وجه التحديد!
نحن نأكل لأننا لا نعرف كيف نتعامل مع ضغوط الحياة، مع الوحدة، مع القلق الذي يرافقنا دون سبب واضح. وعندما نحاول التوقف عن الأكل القهري نشعر فجأةً كأننا قد صرنا مكشوفين أمام مشاعرنا بغير درع نحتمي به، كأننا نقف على حافة هاوية بغير شيء نتشبث به.
فنعود، نعود إلى الطعام، لا لأننا لم نحاول بما يكفي، بل لأننا لم نتعلم بعدُ كيف نتعامل مع الحياة وضغوطها ومهامها وما يعترينا من مشاعر.. دونه.
خصوصية إدمان الطعام وصعوبة التوقف:
حين نحاول التحرر من إدمان الطعام فنحن لسنا أمام تحدٍّ جسدي، بل هو تحد نفسي في أساسه. فكما عرفنا أن الطعام كان مهربًا ومهدئًا، وأحيانًا كان الطريقة الوحيدة التي نعرفها للاعتناء بأنفسنا، لذا فإن إيقاف هذا المُسكِّن والتنازل عن هذا المَهرب لن يكون أمرًا لحظيًّا ينتهي بقرار، نحتاج إلى القرار لنبدأ، ولقد بدأنا بالفعل، وسنحتاج إلى تعلم الطرق البديلة الصحية للتعامل مع ضغوطات الحياة وعالَمنا الداخلي، والتدرب عليها وإدخالها في عاداتنا بعد تغيير كثير من المعتقدات والأفكار عن أنفسنا ابتداءً.
الألم البديل: لماذا نؤذي أنفسنا؟
عرفنا أن الإدمان عامة وإدمان الطعام خاصةً ليس في أصله بحثًا عن لذة، بل من المدهش أن بعضًا منا يختار -دون انتباه- الشعورَ بالذنب الناتج عن نوبات النهم، رغم ثِقل هذا الشعور لكنه معتاد من ناحية، وأكثر احتمالًا من مواجهة الألم الحقيقي من ناحية أُخرى. فبدلًا من التعامل مع مشاعر الوحدة أو الخوف أو القلق أو الندم فإن الطريقة الأيسر التي اعتدناها هي أن نَغرق في دوامة من جَلد الذات، لنؤكد سرديةً ما قديمة في الغالب قد نسيناها، فندور في دوامة تبدو قهرية التكرار:
- نأكل حتى التخمة، ثم نلوم أنفسنا بقسوة، القسوة تضيف مشاعرَ ذنب وخزي إلى وجداننا.
- نُقرر أننا سنبدأ من غدٍّ فنبتعد عن الأكل بالكلية ونبدأ في حِمية ما (وبعضنا يلجأ إلى التقيؤ لإفراغ ما في معدته ليشعر ببعض الراحة)، ثم نفشل غالبًا (وأحيانًا دون انتباه نُفشِل أنفسنا باتباع أنظمة غذائية قاسية وحرمان يزيد ارتباكات المشاعر الأصلية التي كنا نهرب منها)، فنشعر بيأس مُقعِد وأننا لا نستحق المحاولة مرةً أُخرى.
- تتراكم المشاعر، ولم تنمُ قُدرتنا على فهمها وتعريفها وإدارتها بعدُ، فنلجأ إلى مَهربنا الوحيد الذي نعرفه: الطعام!
- نوبة نهم جديدة، فنشعر بالذنب ثانيةً وندخل في صراع داخلي لا ينتهي، كأنها خطوات لمعاقبة أنفسنا بدلًا من مساعدتها!
اللوم وتأنيب النفس ونوبات التجنب أو الحرمان بجميع أشكالها ليست طُرُقًا للحل، بل هي جزءٌ من العملية الإدمانية ذاتها.
كيف نخرج من هذه الدوامة؟
ابتداءً سنُساعد أنفسنا على فهم بعض النقاط الأساسية:
- القسوة مع النفس تُفاقم المشكلة أكثر.
- نحن لا نحارب الطعام في ذاته، وليس الأمر عن أنظمة ما.
- الانتباه إلى ما نشعر به قَبل نوبة الأكل القهري هو أحد العوامل المؤثِّرة في تجاوز النوبة بدرجة كبيرة.
- يمكننا البحث عن طُرق للعناية بأنفسنا بعيدًا عن الطعام.
- مزيد من العناية بأنفسنا يعني مزيدًا من خطوات التحرر من دوامة الإدمان.
- الانتباه والحضور الواعي في أثناء تناول الطعام مُعين.
- الرفق رفيقنا الدائم في هذه الرحلة!
- إن وقعنا في نوبة من الأكل الانفعالي (وسيحدث!) فلا بأس.
- التغيير لا يعني الكمال بل يعني خطوةً واحدة للأمام.
- كل محاولة صغيرة هي انتصار يستحق الاحتفاء.
ونؤكد القاعدة: لا معركة مع الطعام، الطعام لم يكن المشكلة بل كان الحل المؤقت لمشكلة ما، والآن نحن نبحث لها عن حلول صحية.. برفق.
وقد يكون أكثر ما نحتاج إليه الآن هو الإصغاء إلى أنفسنا والبحث عن إجابة السؤال: ما الذي يَنقصني/ أحتاج إليه/ يُشكِّل الخواء بداخلي، وأحاول أن أملأه بالطعام؟
هنا قد تعرفنا على المشكلة باختصار، المعرفة هي الخطوة الأولى وتتبعها خطوات أخرى؛ ما زلنا نحتاج إلى أدوات عملية تُعيننا على التعامل وفق خطوات مدروسة، ولذا سنتحدث في المقالة القادمة عن أولى الخطوات الفِعلية التي يمكننا اتخاذها اليوم لنبدأ في تغيير علاقتنا بالطعام عبْر فهم مشاعرنا.
بقلم د. عمرو مرسي
مسؤول الموقع التعليمي والتقني
استنادًا إلى محتوى د. عماد رشاد المُقدَّم في الفيديو المصاحب للمقال