إدمان الطعام: حين يصبح الأكل قيدًا لا خيارًا – الحلقة الأولى من رحلة فك شفرة إدمان الطعام
نأكل دون احتياج جسدي حقيقي للتغذية، وقد نُحس بالجوع في أثناء تناول الطعام وبعده رغم الوصول إلى مرحلة امتلاء المعدة! وقد نعاني من أمراض ومضاعفات صحية تُعيقنا في ممارسة الحياة بأريحية، نعرف الأضرار ونُعايش آثارها، وغالبًا قد جرَّبنا عددًا من الحميات الغذائية ونعرف كمًّا هائلًا من المعلومات عن الأنظمة وحساب السعرات وتصنيفات الأطعمة ويوشك أن نكون خبراء تغذية، لكننا لا زلنا غارقين في دوامة معقَّدة مع الطعام نَخسر فيها صحتنا الجسدية والنفسية!
ليس الأمر هنا عن الإرادة أو القدرة على التحكُّم، بل ليس عن الأطعمة في ذاتها ما هو صحي وغير صحي، وإنما الأمر عن علاقة، العلاقة التي تتخذ نمطًا إدمانيًّا. ولذا كانت هذه السلسلة من المقالات، سنخوض معًا رحلة لفهم معنى الشهية الانفعالية، وكيف يصير الطعام نوعًا من الإدمان، كيف تتشكل الجذور، وأين يكمن الخلل، ولماذا يبدو من الصعب التحرر من تلك الدوامة.
في مقالة اليوم نبدأ رحلة فك شفرة إدمان الطعام من البداية: ما هو إدمان الطعام؟
إدمان الطعام ليس مجرد نهم زائد، أو ضَعفِ إرادة، وليس مجرد شراهة عابرة يمكننا كبحها بقرار صارم؛ هو شيء أعمق، شيء يُشبه الأَسر. حيث يصبح الطعام أكثر من مجرد وقود للجسد، ويتحول إلى مَهرب نلجأ إليه لتسكين آلامنا التي لا نعرف كيف نواجهها، وربما لا نعرف كنهها على الحقيقة!
هو إدمان سلوكي يقع في المنطقة الوسيطة بين الإدمان الكيميائي والإدمان النفسي. صحيح أن بعض الأطعمة مثل الشوكولاتة والأطعمة الغنية بالدهون والسكريات تُحفِّز إفراز الدوبامين والسيروتونين كأنها تقول لنا: “أنا هنا لأمنحك لحظة من البهجة وسط ما يعتريك من مشاعر مزعجة ومبهَمة، وأمنحك بعضًا من الخَدَر الذي يُشبه ما تتطلع إليه نفسك من سلامٍ وسط كل هذا الضجيج!” لكن المشكلة الحقيقية ليست في كيمياء الطعام بحد ذاتها وما تمنحه -كيميائيًّا- بعضُ الأطعمة، بل في علاقتنا ذاتها بالطعام، عملية الأكل في حد ذاتها هي التي يُصيبها العطب. فنحن لا نعود إلى الطعام لأن أجسادنا تحتاج إليه بل لأن نفوسنا تبحث عن شيء يشبه الاحتواء، الامتلاء، تبحث عن علاقة ما!
هناك خمسة مؤشرات رئيسية ترشدنا إلى أن علاقتنا بالطعام قد خرجت عن السيطرة:
- الاستحواذ (الهوس بالأطعمة أو صورة الجسد أو وزنه): نجد أنفسنا نفكر في الطعام طول الوقت: ماذا سنأكل؟ متى؟ كيف سنحضِّر الوجبة التالية؟ أو على العكس قد ننشغل بهوس الحِمية الغذائية وعدِّ السعرات، مؤرَّقين بقياس أوزاننا يوميًّا، والتحديق في المرآة بحثًا عن عيوب أجسادنا. في الحقيقة لا فرق بين الإفراط في الأكل أو الامتناع القهري عنه فكلاهما وجهان لعملة واحدة: الاستحواذ.
- اللهفة (الرغبة المُلحَّة التي لا تصعب مقاومتُها): تأتي لحظة كأنها نداء داخلي لا يَقبل التأجيل، كأن هناك قوة خفية تمسك بأيدينا وتدفعنا نحو الطعام دفعًا يكاد يكون قهريًّا! في تلك اللحظة لا نرى سوى المتعة الآنية أو وعدًا بالتسكين، كأن عقولنا تُغلَق على فكرة واحدة: “يا سلام لو حصلت على هذه القطعة الآن!” ننسى كل الوعود السابقة بضبط الوجبات مواعيدها وكمياتها، ننسى العواقب جميعها وننجرف.
- أعراض الانسحاب (القلق، الاكتئاب، اضطرابات المزاج عند التوقف): كما جربنا من قَبل حين قرَّرنا التوقف عن السكريات مثلًا فوجدنا أنفسنا غارقين في نوبات اكتئاب مفاجئة! وكذلك يشعر البعض منا بحزن عميق غير مفهوم بعد عمليات تكميم المعدة رغم أنهم نجحوا في خسارة الوزن وحققوا الهدف! الحقيقة أن التوقف عن بعض الأطعمة له أعراض انسحاب، والتوقف عما هو معتاد من اللجوء إلى الطعام له أعراض انسحاب أيضًا تُشبه أعراض التوقف عن المواد الإدمانية وإن لم تكن لتلك الأطعمة خصائص إدمانية في ذاتها.
- الاعتياد الذي يؤدي إلى الاحتياج إلى المزيد (لتحقيق التأثير نفسه): ما كان يكفينا بالأمس لم يعد يكفي اليوم. قطعة الحلوى الصغيرة التي منحتنا لذة قديمة، أصبحت الآن بغير تأثير. نحن نحتاج إلى المزيد، دائمًا المزيد. الجرعة الأولى لم تَعد تكفي فنرفع الكمية دون أن نشعر، حتى نجد أنفسنا غارقين في الإفراط وتبعاته دون انتباه.
- فقدان السيطرة (الوعد بالتوقف، والفشل في كل مرة): نُخبر أنفسنا أننا سنأكل مجرد لقمة ولن نُكمل الطبق، فنجد أننا أنهينا ما فيه. تتكرر الوعود بأننا سنبدأ الانضباط غدًا ثم نجد أنفسنا لا نَفي بهذه الوعود وندور في دوامة من الذنب والتأنيب وإعادة الوعود دون جدوى، كأن هناك قوة ما أكبر منا تدفعنا للانجراف مرة أخرى. هنا يكمن جوهر الإدمان: كأننا لا نُقرر نحن ما نفعله وما نتركه، بل الإدمان هو مَن يُقرر عنا!
لماذا إدمان الطعام أكثر تعقيدًا من غيره؟
مدمن الكحول أو المخدرات يمكنه أن يقطع علاقته بمادته الإدمانية نهائيًّا، لكن ماذا نفعل نحن عندما يكون إدماننا هو شيء يجب أن نتعامل معه يوميًّا؟ كيف يمكننا أن نتعافى من إدمان الطعام ونحن نحتاج إليه للبقاء؟
ولذا فلإدمان الطعام طبيعة خاصة في فهمه وطرائق علاجه، فلا يمكن العلاج بمنطق “الحرمان المطلَق”، فبالتأكيد لن نتوقف عن الأكل. وكذلك فلسنا نحتاج إلى حمية غذائية جديدة فالمشكلة ليست هنا، بل نحتاج إلى علاقة جديدة مع الطعام. بعد رحلة من الفهم للجذور فإننا نتدرب على كيفية الأكل بوعي، وقَبلها نتعلم أن نفهم مشاعرنا وكيف نميِّز بين الجوع الحقيقي والجوع العاطفي.
لستَ وحدك
الوصمة المجتمعية خانقة! الاتهامات الساخرة بالنهم وضَعف الإرادة والتنمر على مَظهر أجسادنا مزعِج ويُثير الحنق نحو أنفسنا إلى مزيد من تعقيد مشاعرنا ثم نلجأ إلى الطعام لتهدئتنا فيزداد الأمر سوءًا! لستَ وحدك! وليس الأمر عن ضَعف، إنه مجرد تحدٍّ يمكننا التعرف عليه وخوض التجربة للتحرر من مُسببات ما يُعيقنا في خطوات حياتنا.
يمكننا أن نُعيد بناء علاقتنا بالطعام من خلال إعادة بناء علاقتنا بأنفسنا ابتداءً. والتغيير لا يبدأ باللوم والحرمان بل بالفهم والقبول. وقد حان الوقت لأن نتعامل مع أنفسنا بمزيد من الرحمة وأن نتوقف عن معاقبة أنفسنا بكل لقمة ونظرة في المرآة ورقم على الميزان!
أن نُدرك ونُفرِّق: هل هذا جوعٌ حقيقي أَم أنه جوعٌ إلى شيء آخر؟ وما هو؟ وكيف السبيل إلى فهمه أولًا ثم كيفية إشباع جوعنا الدفين فتخفت سطوة الإدمانات.
هل يكفي أن نعرف أننا نعاني من إدمان الطعام أَم أن هناك طبقات أعمق يجب أن نكتشفها داخلنا؟
هذا ما سنتعرف عليه في المقالات القادمة، عن الجذور النفسية لإدمان الطعام، ولماذا يبدو من الصعب التوقف حتى عندما ندرك وجود المشكلة.
بقلم د. عمرو مرسي
مسؤول الموقع التعليمي والتقني
استنادًا إلى محتوى د. عماد رشاد المُقدَّم في الفيديو المصاحب للمقال
شرح جميل وعميق