في هذه الحلقة نلقي نظرة على مفهوم اليقظة الذهنية وكيفية ممارستها. وفي الحلقة القادمة نتعرف على أهم الآثار والفوائد التي يمكن أن تحققها من خلال هذه الممارسة، بينما نخصص الحلقة الأخيرة لتمرين عملي سهل يمكنك البدء به فورًا.
لنبدأ رحلتنا…
كان هناك رجل يعيش حياة ممتلئة بالضغوط. يومه مزدحم بالعمل وهاتفه لا يتوقف عن الرنين، والأفكار تلاحقه حتى في ساعات الليل؛ يشعر بأنه فقد السيطرة على حياته. حتى قرر ذات يوم أن يأخذ إجازة قصيرة بعيدًا عن المدينة لعله يجد بعض السلام.
جلس في حديقة هادئة وسط الطبيعة وأغمض عينيه متوقعًا أن يجد الهدوء الذي كان يبحث عنه. لكن المفاجأة كانت أن عقله لم يتوقف عن التفكير. كان منشغلًا بأحداث الماضي وقلِقًا بشأن المستقبل. حاول جهده التخلص من هذه الأفكار لكن كلما حاول زادت ضوضاءُ عقله.
في تلك اللحظة سمع صوت ضحكات طفولية بريئة ففتح عينيه ليجد طفلًا صغيرًا يلعب بفقاعات الصابون. كان الطفل ينفخ الفقاعات التي تطير في الهواء تتلألأ وتنعكس عليها ألوان قوس قزح تحت أشعة الشمس. نظر الرجل إلى الفقاعات للحظة ولاحظ كيف كان الطفل مندمجًا تمامًا في اللعب، يلاحق الفقاعات بنظراته ويضحك من قلبه عند انفجار كل فقاعة دون أي قلق أو تفكير فيما سيحدث بعد لحظات. فشعر حينها بشيء مختلف؛ إذ بدأ يلاحظ التفاصيل الصغيرة التي لم يكن قد انتبه إليها من قبل: جَمال الفقاعات وهي تطير، انعكاس ألوان السماء والغيوم عليها، وضحكات الطفل العفوية. أدرك أن هذا الطفل يعيش اللحظة بكل تفاصيلها ويستمتع بكل ثانية دون أي انشغال بالماضي أو المستقبل.
كان هذا درسًا غير متوقَّع له، فقد أدرك أن اليقظة الذهنية ليست محاولة لفرض الهدوء على العقل أو التخلص من الأفكار، بل هي حالة من الانسجام مع اللحظة، مثلما يفعل الطفل الذي يستمتع باللعب بفقاعات الصابون. بدأ الرجل يتنفس بعمق، يشعر بملمس المقعد الخشبي تحت جسده، يسمع صوت الرياح وهي تداعب الأشجار، ويراقب الفقاعات وهي تنفجر وتختفي. تسرب لنفسه بعض السلام الداخلي لأول مرة منذ فترة طويلة كأنه استيقظ من سبات طويل ووجد نفسه يعيش اللحظة بحقيقتها.
ما هي اليقظة الذهنية؟
هي حالة من الوعي القصدي، حيث نكون حاضرين حضورًا كاملًا في اللحظة الراهنة دون إصدار أحكام أو محاولة تغيير ما يحدث. إنها فن الانتباه للتجربة الحية بكل تفاصيلها سواء كانت هذه التفاصيل محبَّبة أو مزعجة. إنها ليست مجرد ممارسة التأمل بل هي طريقة حياة تمنحنا القدرة على رؤية العالم بوضوح أكبر وتقدير اللحظات الصغيرة التي غالبًا ما نتجاهلها.
فهم الوعي القصدي: التجربة بدلًا من التفكير
عندما نتحدث عن “الوعي القصدي” فإننا لا نقصد فقط الحضور في اللحظة، بل نقصد الانغماس الكامل في التجربة الحالية. الفرق بين الحضور في اللحظة وخبرة اللحظة هو أنك في الأولى قد تكون موجودًا جسديًّا ولكن عقلك قد يكون في مكان آخر؛ في أفكار حول الماضي أو قلق بشأن المستقبل. أما في الثانية فأنت تختبر اللحظة اختبارًا مباشرًا وتعيشها بكل تفاصيلها.
مثال بسيط: تخيل أنك تشرب فنجان قهوة في الصباح. إذا كنت غير حاضر ذهنيًّا فقد تشرب القهوة دون أن تلاحظ مذاقها أو رائحتها. لكن إذا كنتَ يقظًا فستشعر بالدفء وتستمتع برائحة القهوة وتلاحظ كل رشفة كأنها أول مرة تتذوقها.
علم الظواهر وتجربة الذات
في فهمنا لليقظة الذهنية نستلهم الكثير من علم الظواهر (الفينومينولوجيا) الذي يُركز على كيفية تجلي الظواهر في تجربتنا الذاتية. وهو ما يعني أن كل فرد يختبر العالَم بشكل مختلف بناءً على تجربته الشخصية. لا يوجد اكتئاب واحد ينطبق على الجميع بل هناك بصمة اكتئاب لكل فرد منا، فكل واحد منا يختبر الاكتئاب بطريقته الخاصة والمتفردة، وكذلك الأمر بالنسبة للحب والألم والسعادة.
اليقظة الذهنية في حياتنا اليومية: لماذا نحتاجها؟
في عصرنا الحالي -الممتلئ بالضغوط والتشتت- نادرًا ما نكون حاضرين في اللحظة؛ نحن محاطون بالتكنولوجيا والإشعارات المستمرة، ما يجعل عقولنا في حالة فرار دائم بين الماضي والمستقبل. هذا يؤدي إلى التوتر والقلق المزمن وفقدان الإحساس باللحظات الجميلة التي تمر بنا كل يوم. اليقظة الذهنية تساعدنا على التخلص من هذه العادة المرهقة للعقل، وتجعلنا نعيش اللحظة بتجربتها الكاملة مما يُعزز شعورنا بالسعادة والسلام الداخلي.
تنويه: اليقظة الذهنية واضطراب تشتت الانتباه
قد يعتقد البعض أن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب تشتت الانتباه (ADHD) لا يمكنهم ممارسة اليقظة الذهنية، ولكن العكس هو الصحيح. ممارسة اليقظة الذهنية تساعد هؤلاء الأفراد على تطوير قدرتهم على التركيز والانتباه تدريجيًّا مما يُعزز قدرتهم على إدارة أفضل لحياتهم.
نصيحة عملية للعاملين مع الأطفال المصابين بفرط الحركة
يمكنك مساعدة الطفل الذي يعاني من تشتت الانتباه على ممارسة اليقظة الذهنية من خلال تدريبه على الانتباه إلى حركات جسده أو أنفاسه لبضع دقائق يوميًّا.
خاتمة الحلقة الأولى: رحلة بدأت للتو
لقد استعرضنا اليوم أساسيات اليقظة الذهنية وفهمنا العميق للتجربة الذاتية. في الحلقة القادمة سنتعرف على أهم الآثار الإيجابية لممارسة اليقظة الذهنية على صحتك النفسية والجسدية. سنتحدث عن أهمية هذه الممارسة في الحدِّ من القلق والمساعدة على تحسين جودة النوم وزيادة الشعور بالرضا والسعادة.
بقلم د. عمرو مرسي
استنادًا إلى محتوى د. عماد رشاد المُقدَّم في الفيديو المصاحب للمقال
رائع …
الي الامام …
هذا الجزء من اي دورة
اليقظة الذهنية
كتابة محتوى الفيديو فكرة موفقة وجاذبة لمشاهدة الفيديو كاملا .
شكرا .