بتاريخ ديسمبر 14, 2020
هو ذا الحزنُ يُخيم. يُذبَح الحُلمُ هناك على عتباتهم. تُهرَق أمنياتُ الفتى وتُسكَب في الكؤوس، تُوضَع الرأسُ على صفحة الفضة وتُقدَّم باردةً لكلِّ سالومي!
تحتفل الدُّمى، ويَرسم الصانعون الابتسامات فوق وجوه الشمع لعرائس الماريونيت، وترقص الأحجارُ على رقعة الشطرنج، وتعلو ابتسامةُ اللاعبين الأصليين ومُصممي الحركات الغائبين وراءَ الستار.
تنتهي الجَولةُ، وننهزِم.
نُلملم كلَّ تلك الخسارات التي لم نَشهد اقترابَها، ونتجرع فيضَ الخيبات الزائدَ عن الحاجة!
البئر عميقةٌ، ومُظلمةٌ، ومُوحِشة. والألم والفجيعة أكبر من قُدرتنا على مطِّ اتساعات المُواكَبة.
يدُ الربِّ تَتخلَّله، تُربت على السحْجاتِ والخدوش، وصوتُ الربِّ يَهمس في ظُلمة الألم “كله للخير”.
تتساءل الرفيقةُ: كيف أنت؟
أُجيبُها: فقط أخشى الكراهية، كراهيتي؛ لا يُمكنني أن أَشرب السمَّ، لا أُريد استعادةَ الاستياء. ولكن الصَّفْحَ ليس مَيسورًا!
تُرى هل يَشفي ذاك غليلَهم، ويُحقِّق لهم مأربًا!
قد أَخبرنا الصادقون قديمًا أن نسمحَ لأنفسنا بأن تتم كراهيتُنا، ولكنهم لم يُخبرونا هل تُحقق تلك الكراهيةُ شيئًا للكارهين؟
هل نهنأ ببعض الفائدة يَتلقونها منها؟ هل ينامون اليومَ مُلتحفين بالسرور، فنعلم أن لِما نلقاه اليوم غايةً ما عند أحدهم، وليس محض عبثٍ مُبالَغ فيه!
يروي لي صديقي قِصص الوقوف بعد السقوط، والعودةِ بعد الغَيبة، والفرَجِ بعد الشِّدة. تمنحني أقاصيصه سلوانًا وتعزية.
ولكن فجوةً هائلةً صارت تلتهم الكون، كَوني! فراغٌ فُجائيٌّ يَحلُّ.. صوتٌ واحدٌ يَتردد: لماذا نستيقظ غدًا!
أَضحك بعنفٍ، فلا يُمكنني تخيُّل الأمر! هل هو محض مزحة؟ هل هو حُلم عابر؟ أو طَيف هلوسةٍ عمَّا قليلٍ يزول!
تقلق الرفيقةُ، تُغلق البابَ وتجلس جِواري في دعمِها المعهود: ما بك؟ اسمَح لنفسِك بالحُزن!
يُردد الفتى الذي تم تجريده من كافة درُوعه على حِين غِرَّة: فقط، لا يُمكنني تخيُّل الحياة! ما الذي يمكن أن يفعله رجلٌ مِثلي الآن! ما الذي يُمكنني أن أُفكر فيه! خواءٌ يملأ عقلي يا رفيقتي، كأنها أعراضُ انسحابٍ عميقة، انسحاب الوجودِ مِني!
يتساءل عقلي: أَخبرنا يا فتى فيمَ نُفكر الآن، زال كلُّ ما يَشغلنا، اختفى كلُّ شيء، أو بالأحرى: سُرِق!
انكفأت جدران العقل على ذاتها، صارت جمجمتي ككُرةٍ تم تفريغُها من محتواها.
فقط كنتُ أُريد قِتالًا عادلًا، ومَوتًا مكافئًا، ورصاصةً مستحقةً في الصدر، أن أنظر ساعتئذٍ في عيْن قاتِلي.
لم أكُن أخشى العداوات، ولم أرغب في خلوِّ الحياة من المُكدِّرات، ولكني -فقط- أردتُ نزاهةَ الأعداء، لم أكره الألم قدْرَ نفوري من الغدر!
تُردد رفيقتي صوتَ الرب: “كلُّه للخير”.
أُجيبها: أعلم، ولكنني لا أعلم ما الذي سيتبقَّى مني الآن. لا أعرف ما سيطفو مِني من حُطامٍ بعدما غرِقَ الفُلْك، وهل سيكفي ليَصنع شبحَ إنسان!
كل وجود سيصير وجودًا شبحيًّا الآن.
يُنادي الربُّ في ظلمة الليل: قد طلَّ (عام الحُزن) فاثبُت، واستوِ، “كلُّه للخير”.
أُنادي الربَّ في الظُّلمة ذاتِها: عِدني أن يكون عامًا فقط، أخشى أن تكون -فقط- تُؤهِّلنا برفقٍ لفقْدٍ بلا عَود، وخسارةٍ بلا استرداد، وسلبٍ بلا استعادة.
يَعود الربُّ لغموض حِكمته، ويتردد صوتُ الأقدار: “كله للخير”.
أتكوَّر هناك في جانب الفِراش، ولا يزال صوتُ الرب يعلو: “يُدَبِّر الأمر”.
أتأمل الصِّغارَ هناك يتساءلون: لماذا ينغلِق الغار، وتصدأ حَربة الصيد، ولماذا يَشيب شَعر الأب فجأةً، ومن أين ظَهر العَجز والتجاعيد، من أين نبتت الصدوعُ في عِظامه والشروخُ في روحه!
تُنادي الصغيرةُ: لماذا هجَرَتنا ضحكةُ أبي!
فتقول الأمُّ/ الرفيقة: ستعود يا صغيرتي، ضحكةُ أبيكِ مختلطةٌ بروحه، هي فقط مُغبَّرةٌ قليلًا، مخبوءةٌ وراء غيماتِ الألم العابِرة ثُم لا محالةَ تزورنا. أنا أثق بالضحكات، أثق بالأمل، أثق بطاقتِه، أثِق برَجُلي.
تُعلِّم الأمُّ طفلتَها: الرجال ينهزمون يا طفلتي، لا يَعيبهم الانهزام، ربما يحتاجون بعض السقوط والنزف، وهنا يأتي دورُنا الأشهى، يدُ الأنثى تشفي جراحات السقوط، وعينُ الصبر تَمنحهم عَزمًا على المعاودة. كم جميلٌ أن تَشهدي القدرةَ الشفائية لصدرك!
وأبوكِ عائدٌ من إحدى هزائمه؛ محض جولةٍ فقط.
ولكني أعلم أن هذا المتكوِّمَ هناك يَملك عزمًا لا يَنثني. فدعينا لنَنم قليلًا، ونَمنحه وقتًا كافيًا للاحتراق؛ فعمَّا قليلٍ يَقوم كالعنقاء من بيْن رَماده.
وتُردد الرفيقةُ تهويدةً جماعيةً: هو فقط مَشهدٌ آخَرُ في حَبكة قِصةٍ لمْ تَنتَهِ.
في ذكرى الخسارة الأكبر والهزيمة الأكثر فداحةً