إن هذه السلسلة موجهة لنا، للذين ساروا في طريق التعافي وعاشوا لحظات من السقوط والانتكاس، وربما حلَّقوا في فضاءات الحماس حينًا وفقدوا الأمل أحيانًا.
نضع بين أيديكم تجربةَ عابرين على الطريق لعلَّها تُرشد أو تواسي حين تُعيد تعريف الانتكاس، لا باعتباره فشلًا بل جزءًا لا يتجزأ من مسار التعافي وفرصةً عظيمةً للتعلم والنمو.
الانتكاس، المعنى الحقيقي والمفهوم المختلف:
عندما نتحدث عن الانتكاس فإن الصورة العامة هي تلك اللحظة التي يعود فيها الشخص إلى السلوك الإدماني بعد فترة من الامتناع والتعافي. في اللحظة الأولى قد يشعر المرء كأنه سقط في بئر مظلمة، خاصةً إذا كان قد بدأ بالفعل قَبلها يشعر بالأمل وإمكان التغيير. قد تُعد الانتكاسة بالنسبة للكثيرين علامةً على الفشل أو العجْز، لكنها في الحقيقة ليست سوى جزء من التجربة الإنسانية الشاملة، ومنعطفًا لا انفكاك عنه في طريقنا للتعافي. هي ليست لحظة انهيار أو فقدان للأمل، بل هي فرصة لننظر بعمق أكبر في أنفسنا. هي محطة جديدة تدعونا إلى إعادة تقييم الرحلة، ومعرفة ما الذي يمكننا تغييره، وأين يمكننا التحسن. فعلى الرغم من الألم الذي قد يصحب الانتكاس إلا إنه يوفر لنا منظورًا جديدًا للفهم والتعامل مع التحديات تعامُلًا أكثر نُضجًا.
لماذا يحدث الانتكاس؟
أحد الأسئلة الأساسية التي نطرحها عند حدوث الانتكاسة هو: لماذا حدث هذا؟ لماذا بعد كل الجهد والتحسن نجد أنفسنا نعود للنقطة نفسها التي كنا نرغب في الابتعاد عنها؟
هناك العديد من الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الانتكاسة، وهي أسباب لا تتعلق فقط بالضَّعف الشخصي أو العجز الذاتي، بل ترتبط ارتباطًا أساسيًّا بثغرات في برنامجنا يسمح بتصدعه أمام تعقيدات الحياة وضغوطاتها، والتحديات النفسية التي تتراكم على مدار السنوات.
إن الإدمان -كما اتفقنا- هو محاولة لسد فجوة نفسية، ليس مجرد عادة سيئة أو فِعل غير عقلاني. فعندما نشعر بالضعف، أو نواجه مشاعر مؤلمة مثل الحزن أو الوحدة أو الخوف، قد نجد أنفسنا نلجأ إلى الإدمان مرة أُخرى كوسيلة للهرب من هذه المشاعر؛ ليس بسبب نقص الإرادة بل لأن هذه المشاعر تتطلب منا عنايةً خاصةً لم نتعلم التعامل معها بطريقة صحيحة بعد.
وهكذا الانتكاس، فهو عودة لتلك الدائرة من سطوة المشاعر غير المحتمَلة مع غياب مهارات إدارتها. لذا تزداد معدلاته حين يغيب الدعم الاجتماعي الكافي، أو بسبب الضغوط الحياتية المفاجئة، أو حتى بسبب الشعور بالملل أو السأم من الروتين اليومي.
كيف نتعامل مع الانتكاس؟
عندما يحدث الانتكاس فإن أهم خطوة يجب أن نتخذها هي أن نتعامل معه بنظرة متعاطفة وغير قاسية تجاه أنفسنا. فالانتقاد الذاتي القاسي هو أسوأ ما يمكن أن نفعله في هذه اللحظات.
علينا أن نتذكر أن كلًّا منا يمر بمراحل ضَعف، وأن استئناف التعافي يتطلب منا الرحمة تجاه أنفسنا قبل أي شيء آخر.
من الضروري أن نسأل أنفسنا بعد الانتكاس: ما الذي دفعني إلى العودة؟ هل كانت هناك ضغوط لم أستطع التعامل معها؟ هل تجاهلتُ علامات التحذير؟
هذه الأسئلة ليست بغرض اللوم، بل بغرض التعلم. يمكن للانتكاسة أن تكون فرصةً لنفهم أعمق احتياجاتنا وما الذي يجب علينا تغييره في استراتيجياتنا للتعافي.
من المهم أيضًا أن نكون على دراية بأن الانتكاس ليس حالة دائمة، بل هو لحظة مؤقتة يمكن تجاوزها بالعودة إلى المسار الصحيح. وإحدى أفضل الطُّرق لذلك هي العودة مباشرة وفورًا إلى الروتين الصحي والتمسك بالعادات التي كانت تدعم رحلة التعافي قبل الانتكاس؛ فيمكننا العودة إلى النشاطات اليومية التي تمنحنا الاستقرار مثل ممارسة الرياضة أو الكتابة التأملية، لعلها تساعدنا في استعادة التوازن مرة أُخرى.
وكما نشير دائمًا أن الدعم الاجتماعي يلعب دورًا كبيرًا في تجاوز الانتكاس؛ التواصل مع مَن يحبوننا ويفهمون طبيعة التحديات التي نواجهها يمكن أن يكون طوق النجاة في لحظات الانكسار. ليس هناك خجل في أن نطلب المساعدة بل على العكس، فإن طلب المساعدة يتطلب شجاعة كبرَى ويعكس رغبتنا الصادقة في التعافي.
الانتكاس يمنحنا فرصةً لرؤية الأمور من زاوية جديدة، وإعادة التفكير في خططنا واستراتيجياتنا. بدلًا من أن نعتبره خطوة للخلف، يمكننا أن ننظر إليه على أنه جزء من الدائرة الأكبر للتحول والنمو.
إن الطريق إلى التعافي ممتلئ بالتحديات، ولكنه أيضًا ممتلئ بالفُرص للنمو والتغيير. كل انتكاسة يمكن أن تكون نقطة تحوُّل حين نسمح لأنفسنا أن نخرج منها بفهم أعمقَ لذواتنا وبتقنيات جديدة للتعافي أكثرَ ملاءمةً لاحتياجاتنا. والأهم هو ألَّا نعتقد أن الرحلة قد انتهت بسبب انتكاسة واحدة أو عدة انتكاسات.
***
ان كانت فاتت الحلقة الأولى يمكنك قراءتها من هنا
نحو الحلقة القادمة
في الحلقة القادمة ( الثالثة) من هذه السلسلة سنتناول موضوع “التعافي تحوُّلًا روحيًّا ونفسيًّا” وكيف يمكننا أن نراه ليس فقط عمليةَ ابتعاد عن السلوك الإدماني، بل تجربةَ تحوُّل روحيٍّ تفتح لنا أبوابًا جديدة للحياة والشفاء. لنُكمل هذه الرحلة معًا لنتعلم أن التعافي هو أكثر من مجرد التغلب على الإدمان، بل هو بناء حياة ممتلئة بالمعنى والسلام. أن نكون دائمًا على يقين أن كل خطوة حتى لو كانت صغيرةً هي تقدُّم نحو الشفاء وأن الانتكاسة ليست نهايةً بل هي بداية جديدة للتعلُّم والنمو.
تنويه: كتب هذه المقالات وصمَّمها د. عمرو مرسي، استنادًا إلى محتوى كتاب “ممتلئ بالفراغ” للكاتب والطبيب د. عماد رشاد عثمان.