مرحبًا بك رفيقنا مرةً أُخرى في هذه السلسلة المتخصصة في مواجهة الانتكاس، والتعافي من الإدمانات والسلوكيات القهرية. كنا في الحلقة الثانية قد تطرقنا إلى موضوع الانتكاس وكيف أنه ليس فشلًا بل فرصة للتعلم والنمو. إذا لم تقرأ الحلقة الثانية بعدُ فننصحك بالعودة إليها، فهي تضع الأساس لفهم أعمق لرحلة التعافي وكيف يمكن للانتكاس أن يكون نقطة تحوُّل وليست نهاية الطريق.
أمَّا في هذه الحلقة فإننا سنتناول جانبًا آخَر من التعافي؛ التعافي بوصفه تجربةَ تحوُّل روحيٍّ ونفسيّ.
قد يكون من السهل أن نفكر في التعافي كعملية ممتدة تتكون من خطوات محددة تنتهي بالابتعاد عن السلوك الإدماني، لكن الواقع هو أن التعافي هو أكثر من مجرد توقُّف عن سلوك ضار، وأبعد من مجرد ترتيب لخطوات -رغم أهميتها- فهو رحلة عميقة إلى الداخل. هو تغيُّر كامل في التوجُّه تجاه الذات والعالم والماضي، حيث يتم إعادة اكتشاف الذات وإعادة بنائها على أسس جديدة أكثر اتساقًا واتصالًا مع ذواتنا الحقيقية، وأكثر وعيًا بمعنى الحياة.
التعافي: أكثر من مجرد الامتناع.
إن التعافي يتطلب منا أن نُغيِّر من طريقة رؤيتنا لأنفسنا، ولعلاقتنا بالآخَرين، وللعالم من حولنا. إنه يشبه إعادة صياغة لكل ما نؤمن به، ولكل ما نحمله من أفكار وقيم.
التعافي هو تحرر من القيود التي كنا نضعها على أنفسنا، تلك القيود التي جعلتنا نلجأ إلى الإدمان حلًّا سهلًا لتجاوز الألم.
عندما نبدأ في السير في طريق التعافي نبدأ في رؤية هذا الألم جزءًا من تجربتنا الإنسانية، وبدلًا من الهرب منه نتعلم أن نواجهه بصدق وشجاعة. إن هذا التحول من الهروب إلى المواجهة هو بحد ذاته تحوُّل روحيٌّ عميق.
التحوُّل الروحي: بناء معنًى جديد للحياة.
عندما نتحدث عن التحول الروحي فإننا لا نشير بالضرورة إلى المعنى الديني، بل إلى حالة من العمق النفسي والتواصل مع الذات الحقيقية. إنها لحظة ندرك فيها أن الإدمان كان محاولة زائفة ومتعثرة للبحث عن معنى، وأن الشفاء يأتي من إيجاد هذا المعنى بطُرق صحية وإيجابية. فالتعافي يتكلل ببناء حياة ممتلئة بالمعنى؛ حياة تجعلنا نشعر بالانتماء والهدف والاتجاه.
التحول الروحي في التعافي يشبه زراعة بذور جديدة في تربة كانت قد أنهكتها العواصف، قد يستغرق الأمر بعض الوقت لتُعيد التربة شفاء نفسها لتتمكن من أن تكون بيئة حاضنة لنمو بذورنا. هذه البذور يمكن أن تكون حُبًّا للذات، وتعاطفًا مع الآخَرين، ورغبة في النمو والتطور.
إننا نبدأ في رؤية الحياة من منظور مختلف، حيث نبحث عن السكينة والسلام الداخلي بدلًا من السعي وراء اللذة اللحظية أو الهروب من الواقع.
دور الرحمة والتعاطف في التحوُّل
من أهم جوانب التحول الروحي هو تعلم الرحمة، الرحمة تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين.
ففي كثير من الأحيان يكون الإدمان نتاجًا لدوام الشعور بالرفض والنقص، مع محاولة سد هذه الفجوة بطُرق معطوبة تُعمقها فينا أكثر. عندما نتعافى نتعلم أن نحب أنفسنا كما نحن، بكل ضَعفنا ونقائصنا. ونتعلم أيضًا أن نكون متعاطفين مع أولئك الذين يشاركوننا هذه الرحلة. الرحمة والتعاطف هما المفتاح للتواصل مع الآخرين تواصُلًا صحيًّا. عندما نكون متعاطفين مع أنفسنا نصبح قادرين على فهم احتياجاتنا الحقيقية بدلًا من محاولة كبتها أو الهروب منها. وهذا التحول ينعكس إيجابيًّا على علاقاتنا حيث نصبح أكثر قدرةً على التواصل تواصلًا صادقًا ومعبِّرًا دون خوف من الرفض أو الحُكم.
رحلة التعافي إعادة اكتشافٍ للذات
خلال الإدمان النشط نميل إلى فقدان الاتصال بذاتنا الحقيقية ونصبح أَسرى لسلوكيات وتوجهات لم نعد نعرف مصدرها أو الهدف منها. في التعافي نبدأ ببطء في استعادة هذا الاتصال المفقود؛ نتعرف من جديد على ما نحب، وما يجعلنا نشعر بالسعادة والراحة، ونبدأ في إعادة اكتشاف الأشياء التي كنا نشغف بها يومًا ما قبل أن يسيطر علينا الإدمان، سواء أكانت هوايات أو أحلامًا أو أهدافًا شخصية.
إن هذا الاكتشاف لا يأتي وليد لحظة بل يتطلب الوقت المظلَّل بالصبر والمثابرة. قد نحتاج إلى تجربة العديد من الأنشطة حتى نجد ما يُشعل فينا تلك الشرارة المفقودة. قد تبرق هذه الشرارة في القراءة أو الرسم، أو حتى قضاء الوقت مع الأصدقاء والعائلة، المهم هو أن نتعلم أن نعيش الحياة كاملةً دون الاعتماد على السلوكيات الإدمانية لملء الفراغات بداخلنا.
التحول النفسي والتخلص من الأفكار السلبية
جانب آخَر من جوانب التعافي هو التحول النفسي، والذي يتمثل في القدرة على التخلص من الأفكار السلبية والتوجهات المدمرة التي كانت تغذِّي الإدمان. في كثير من الأحيان يكون الإدمان نتيجة لأفكار متجذرة حول الذات مثل: “أنا لست كافيًا” أو “لا أحد يحبني”، هذه الأفكار تصبح كالسجون النفسية التي تعزلنا عن العالم وتدفعنا للهروب إلى الإدمان.
في التعافي نبدأ بتفكيك هذه الأفكار، ونستبدل بها أفكارًا أكثر إيجابية وصحية؛ نبدأ في رؤية أنفسنا أشخاصًا ذوي قيمة بغض النظر عن الأخطاء التي ارتكبناها أو الانتكاسات التي مررنا بها. نبدأ في بناء هويتنا الجديدة، هوية تعتمد على القيم والأهداف التي تهمنا حقًّا، وليست تلك التي فرضتها علينا العادات الإدمانية.
التعافي عملية مستمرة
إن التحول الروحي والنفسي ليس هدفًا نصِل إليه ثم نتوقف لنتجرع لذَّات مستدامةً ومُتعًا لا تنقطع، بل هو عملية مستمرة ترافقنا طوال رحلة الحياة. فكل يوم هو فرصة جديدة للنمو والتعلم، وكل تحدٍّ نواجهه هو فرصة لإعادة تقييم أنفسنا والتأكد من أننا نسير في الاتجاه الصحيح. التعافي هو حالة من الاستمرارية حيث نبني تدريجيًّا حياةً ممتلئة بالمعنى ينتج عنها تسرُّب تدريجي للهدوء والسلام الداخلي.
علينا أن ندرك أن هذه العملية لا تخلو من الصعوبات، وأن هناك لحظات سنشعر فيها بالضَّعف أو بالرغبة في العودة إلى السلوك الإدماني. لكن عندما نمتلك القدرة على رؤية التعافي رحلةَ تحوُّلٍ سنجد في هذه اللحظات فرصًا لتقوية إيماننا بقدرتنا على الشفاء، ونجد أن كل تحدٍّ يمكن أن يكون درسًا جديدًا يُضاف إلى جعبة تجاربنا.
***
نحو الحلقة الرابعة
ابقَ رفيقنا دائمًا على يقين أننا نستحق الشفاء، وأن كل يوم جديد هو فرصة للتغيير والتحول.
تنويه: كتب هذه المقالات وصمَّمها د. عمرو مرسي استنادًا إلى محتوى كتاب “ممتلئ بالفراغ” للكاتب والطبيب د. عماد رشاد عثمان.
شكرا
كم أنا ممتن للدكتور عماد ومدين بالفضل له بعد الله في احداث هذه النقلة الفريدة في الحديث عن الادمان والتعافي، ختاماً شاكر على هذا المقال والنشرة الاسبوعية وللدكتور عمرو مرسي والتيم العامل معك
شكراً 🙏🏼