الجرح ليس إلا مكاناً يدخل منه النور!!
جلال الدين الرومي
هل سبق لك أن شعرت بأنك تعيش على الطيار الآلي، منفصلًا عن ذاتك وواقعك، وكأنك غائب تمامًا عن اللحظة الحالية؟ في الحلقة الرابعة من سلسلة “مواجهة الانتكاس” المكونة من خمس حلقات، نغوص في مفهوم “التجذر في الآنية” وكيفية استعادة حضورنا الذهني والتغلب على حالات الانخلاع الإدماني التي تسرق منا حياتنا. نأخذكم في هذه الرحلة المُلهمة مع نص مقتبس بالكامل من كتاب “ممتلئ الفراغ” للكاتب والطبيب عماد رشاد. انضموا إلينا لاستكشاف طرق جديدة للتواصل مع الذات والواقع بوعي وعمق أكبر.
قد تحدثنا طويلًا عن حالة الانخلاع الإدماني، وهي حالة مركبة تجعل المدمن غائبًا عن ذاته ووجوده، ولا نعني بها سكرة التعاطي أو ثمالة المادة الإدمانية إنما نعني تلك الحالة الوجودية النفسية المركبة والتي تتمثل في:
حالة الاستغراق التام في السلوك الإدماني، بشكل أشبه بالمنوم، فنحن نمارس السلوك وننغمس فيه ولكننا في الوقت نفسه لا نعيه، ولا ندركه، ننخلع عن أنفسنا ونذهل عن ذواتنا وعن الواقع، وكأننا نخرج خارج الزمن، حتى نتساءل بعدما نستفيق أين كنا؟ وأين ذهبت عقولنا في تلك الأوقات.
(يمكنك ملاحظتها خلال نوبة نهم الطعام، أو في ساعات يقضيها مدمن الإباحيات متنقلًا بين السيناريوهات والصور، أو في ساعات يندمج فيها المصاب بأحلام اليقظة القهرية في خيالات لا يخلعه عنها سوى اضطرار)
حالة الانفصال عن الواقع وعن الحقيقة والتي يمثلها الإنكار والتبرير ولوي الحقائق الذي تستخدمه عقولنا في خداعنا وإبقائنا في الترنح والسقوط.
حالة الغياب وتغير الحالة المزاجية (السكرة) نتاجًا للتناول نفسه، وتلك التي تعقب الشرب، أو الوصول للنشوة، أو الامتلاء بالسكريات.
حالة الهروب الذي يمثلها الإدمان نفسه؛ هروب من الالتزامات، وفرار من الضغوط، واجتناب للمشاعر المؤلمة.
لذا فتلك الرباعية تنشئ لدى المدمن حالة من (الذهول المركب) والانخلاع العميق، وفقدان التجذر في الواقع، فنعمل بالطيار الآلي؛ أجسادنا تتفاعل ببرود، وعقولنا تسبح في هُوامات الخيال وسيناريوهات سابحة، ووجودنا يكتنفه ضباب الإلهاء الإدماني، (نحن هنا ولكننا لسنا هنا أبدًا).
وهو ما يفسر التناقص العنيف في فاعليتنا وإنتاجيتنا. وإن لم نلحظ هذا التناقص، فإنما نتعامى عن تكلفة الفرصة البديلة؛ ونعني بها تلك الإنتاجية والفاعلية التي كنا سنكون عليها إن لم نكن منخلعين ومخطوفين بفعل الإدمان، فذلك الحد من التركيز الذهني الذي يتبقى لنا في إدماننا النشط إنما هو حد الكفاف الذي يجعلنا نمر نحو المساء دون أن ننكشف، ولكن كم المهدور من طاقاتنا لو كنا استثمرناه ووظفناه لوجدنا أنفسنا اليوم نحلق في بقاع من النجاح لم نكن ندرك وجودها أو إمكانها لأمثالنا.
وهو ما يدفعنا للحديث عن إحدى خطوات التعافي المهمة، وهي خطوة عملية وليست عملية في الوقت نفسه، فهي لا تتضمن سلوكات مباشرة ننفذها، بقدر تضمنها لحالة ذهنية نحتاج إلى أن نتلبسها ونمرن أنفسنا على البقاء فيها قدر استطاعتنا، تلك الحالة هي ما تسمى اليقظة الذهنية أو الوعي الآني mindfulness .
والمقصود بها الحضور الذهني التام في اللحظة، بكل ما فيها من إدراكات، وأفعال، حضور حر وانتباه حائم في الآن يلم بالوقت وما يدور فيه دون أن يحكم عليه، ودون أن نطالبه بأن يكون غيره، حضور مفعم بالصحوة والقبول.
هو أن تحضر في جسدك، تسكنه، تستشعره، تحتله بكاملك، تحيا مع أحاسيس خلاياه حتى النخاع.
وأن تحضر في واقعك، تدركه، تنتبه له، تنصت للأصوات السارية حولك بانتباه غير انتقائي، وتتأمل بعينيك المشاهد العابرة بتركيز مع تفصيلاتها، وتمر بأناملك على الأشياء التي تعاقرها متيقظًا للملمس والطبيعة. تسمح للرائحة بأن تخترقك، وترحب بالمذاقات لتستوطن مستقبلات لسانك.
أنا هنا والآن، ألقي بجذوري في الواقع، في الحقيقة، فيما هو كائن، بتوجه غير رافض، بتوجه خالٍ من التشنج والانتقاء ومحاولات الإزاحة، إنما أنا هنا بكاملي، أستقبل ما هو كائن بكامل حضوري، ومنتهى شعوري.
تلك الحالة من اليقظة تشبه (حالة المراقبة) في رياضة النفس، أو ما يصل إليها المرء في حالة (الذكر) المستدام، ومطلبها الرئيس هو إخراج المرء من حال الغفلة والآلية والأتوماتيكية نحو الانتباه والحضور والوعي والإرادة؛ خروج من القهر والانجراف نحو الحرية والاختيار.
وكلما بقينا في هذه الحالة أكثر، كلما تناقصت حالة الخطف من قِبل الاستحواذ، وكلما صرنا أقل عرضة للانجراف الآلي نحو الانتكاس، وكلما هدأت صراعاتنا الداخلية التي تدفعنا للسقوط.
هذا عمومًا، أما على وجه الخصوص فهناك مواطن يكون التحلي فيها بحالة اليقظة الذهنية والتجذر الآني هو من الأهمية بمكان
الأكل اليقظ Mindful Eating:
وهو نوع من الخروج من حالة الآلية التي تربط علاقاتنا بالطعام، فنحضر تمام الحضور في ميقات الأكل، نمضغ على مهلٍ، نستشعر كل أجزاء عملية التناول، ننتبه للرائحة ونمنح أنفسنا الوقت لتأملها، ننتبه للحرارة، والملمس، والمذاق، والكم، ومسار اللقيمات من حلوقنا تخترق صدورنا حتى تصل للبطون، فنرافقها في المسير، ونتوقف عن الانتباه لما سوى الطعام، نقلل من الكلام، ونمتنع عن الملهيات عنه، من مشاهدة التلفاز أو التعامل مع هواتفنا في حضرة الطعام، ونكون مستغرقين بانتباه في فعل واحد لا أكثر وهو فعل الطعام.
تلك الحالة وبالأخص في بدايات التعافي تخرجنا من الانخلاع الإدماني، وتمنحنا الفرصة لإدارة أكبر للكميات، وتعيد ترميم علاقتنا بالأكل، وبالأخص لدى المصابين بفرط الشهية الانفعالية.
الاشتهاء اليقظ Mindful Arousal and Sex
قد يفيد هذا الأمر الناس عمومًا، ولكن أكثر من ينتفع به هم مدمنو الجنس والمواد الإباحية.
ونعني به احتواء الحالة التي تنتابنا من الاشتهاء الجنسي، واستيعاب تلك الدفقة من الرغبة التي تسري أحيانًا تحت جلودنا؛ أنفاسنا المتسارعة، ونبضنا المتعجل، والحرارة بصدورنا، فننتبه لها، ونسمح لها بالتواجد، لا نخشاها ولا نقاومها، وكذلك لا نعاملها معاملة المخرجات واجبة التفريغ أو الركام واجب الإزالة، إنما نشهد سريانها هناك كطاقة حياة ودفقة من إبداع، نستدمجها في حركتنا، ونستثمرها في تفاعلاتنا.
فإن كنا في علاقة، فلا تعجل وانجراف نحو الفعل الجنسي، إنما نوجه تلك الطاقات لتتحول إلى فعل حب، وتعبير عن الذات، وتجلٍّ للشغف بآخر، فنكون هناك حاضرين تمام الحضور مع الفعل الحميم قبل الجنسي بكامل أجزائه وأبعاده، تمامًا كما شرحناها في الطعام، ولن نفيض في شرحها هنا لئلا تمثل استفزازًا لمدمن ببدايات تعافيه.
الشعور اليقظ Mindful Emotional Experience
وربما تلك من القفزات الوجودية التي ما يتقنها المدمن منا حتى تنفتح له سبل التعافي ويتمكن منها، ونعني بها احتواء المشاعر واستيعابها والانتباه لمكوناتها الفسيولوجية والنفسية.
ولسان حالنا يقول (لسنا بحاجة للهرب، فالمشاعر لن تقتلنا)، فها هو القلق ينتابنا، فننتبه لضيق الصدر، وتململ القدمين، وتسارع النبض، وزيغ العينين. نوقن أنه يمكننا احتواءه، ربما قد يصعب في البدء، ولكنه لن يقتلنا، لسنا بحاجة لإزاحته أو الهرب منه أو تخديره، يمكننا البقاء معه أكثر.
وهكذا الحزن، ننتبه لشجنه، لسقوط القلب في غورٍ داخلي سحيق، لانغلاق الحلق بالغصة، لهروب الكلمات، لأفكار يائسة تمر بأذهاننا، هكذا الحزن لن يقتلنا، يمكننا التدرب على البقاء معه أكثر.
وهكذا نبدأ في التدرب على احتواء المشاعر، نتمكن بمرور الوقت من احتواء وقبول طيفٍ واسع من المشاعر، وما كنا نسميه بالأمس مشاعر سلبية، وما كان يؤلمنا قديمًا ويدفعنا للهرب ومحاولة التغيير قد صارت تجارب وخبرات تمنح وجودنا أصالة وإنسانيتنا عمقًا وألقًا.