ثمَّة ما يربط بين التعب المزمن والإرهاق الخفي وبين شعور خافت بالذنب حتى إن كنا نبذل أقصى ما نستطيع. ثمَّة شيء لا يُقال لكنه يرافقنا كلما حاولنا أن نرتاح، أو حين نُقصِّر قليلًا أو نخطئ لأننا بَشر عاديون والخطأ جزء أصيل في تكويننا. كأنَّ بداخلنا قاضيًا داخليًّا يراقبنا بنظرة صارمة ويقول دومًا: “لا! ليس بَعد.. لم تَصل بَعد.. لم تنجُ بَعد.. وينبغي عليك ألَّا تُخطئ أبدًا.. وينبغي عليك ألَّا تُقصِّر.. وليس لك أن تستريح!”
هذا الصوت لا يصرخ، لكنه حاضر. قد يكون خافتًا لكنه يتحكم في إيقاع حياتنا ويُعيد صياغة قراراتنا ومواقفنا. إنه ما نُسميه في علم النفس: “النمط الكمالي”.
الكمالية ليست مجرَّد “رغبة في الإتقان”، بل هي حالة من التورط النفسي مع “المثالية” بوصفها شرطًا للقبول الذاتي. لا تُطلب الجودة في ذاتها بل لأن الشعور بالكفاية معلَّق بها.
فنظل نراجع الكلام قبل أن نقوله، ونحسب الخطوات قبل أن نخطوها، ونستبطن النقد حتى قبل أن يُقال، ونعيش كما لو أن العالم لجنة تقييم تنتظر لحظة سقوط واحدة لتمحو كلَّ رصيدنا.
وفي داخل هذا السعي المتوتر للتمام نتعلَّم تدريجيًّا ألَّا نُظهر عيوبنا، أن نُخفي مشاعرنا، أن نتحكم في صورتنا، أن نُبقي “مسافة” محسوبة في العلاقات، مع رغبتنا في الاقتراب والدفء، لكننا نخشى الانكشاف. فالكمال لا يُحب العفوية، والمسافة هي خط دفاع الكماليِّ ضد ما قد يؤذيه.
لكن المشكلة أن ما نحسبه “حماية” يتحوَّل تدريجيًّا إلى عزلة داخلية لا تُرى، فنبدو ناجحين، متماسكين، وربما ملهمِين، بينما في الداخل: تعب مزمن من محاولة البقاء في الصورة، نعيش كما لو أن كل لحظة هي اختبار لتقييمنا.
المفارقة
بقدْر ما يسعى الكماليُّ للإتقان فإنه يحمل داخله رغبة خفية – لا واعية- في التحطيم والانهيار! نعم، نحن نلهث خلف الكمال ويسكننا شيء آخَر يُريد تحطيم هذه اللعبة، فنجد أنفسنا نُخرب ما بنيناه، ونؤجل ما نحب، وننسحب من منتصف الطريق، وقد ننخرط في سلوكيات تدميرية دون سبب واضح.
وهنا يظهر جانب خطير آخَر:
الكمالية لا تعيش وحدها، بل ترتبط غالبًا بوساوس قهرية، أو قلق مزمن، أو إدمانات سلوكية تتخفى تحت أقنعة مختلفة. الإدمان هنا ليس دائمًا لمادة ما، بل أحيانًا يكون لسلوك يمنحنا لحظة هروب من سجننا الداخلي. كأن الجسد والعقل يعقدان اتفاقًا مؤقتًا على الانسحاب، حين لا تعود النفس قادرةً على التحمُّل.
فترتبط الكمالية أحيانًا بالتأجيل المزمن، أو جلد الذات، أو حتى نوبات من الإفراط والتخريب، ثم شعور جارف بالخزي يُعيدنا إلى دائرة السعي من جديد، وهكذا نظل ندور..
من أين جاءت الكمالية؟
غالبًا لا تَظهر الكمالية من فراغ. هي ليست خيارًا حرًّا ننتقيه بل نمطًا تكوَّن داخلنا كرد فعل، كوسيلة للنجاة في بيئة ما. ربما نشأنا في بيئة تُكافئ الامتياز، وتتجاهل المشاعر، أو اعتدنا أن المَحبة مشروطة بالتصرف “الصحيح” وأن الأخطاء تَحرمنا تلك المَحبة. وربما حملنا مبكرًا مسؤولية تفوق أعمارنا فصرنا نخشى الفشل لأنه يعني الخذلان.
هل التحرر منها ممكن؟
نعم، عبر الفهم والتصالح.
التحرر من الكمالية لا يعني الاستسلام للفوضى بل استرداد حقنا في الخطأ والضعف والتجربة. يعني أن نرى ذواتنا قابلةً للخطأ دون أن يُلغي قيمتنا هذا الخطأ. والتحرر يعني كذلك أن نُقيم علاقات دون مسافة زائدة عن الحاجة، وأن نشارك فيها بصدق لا بكمال مصطنع. التحرر يعني أن نسمح للإنسان فينا أن يتقدَّم الصف، الإنسان بحقيقته بدلَ القناع.
بداية ممكنة..
خلال الأيام القادمة تُطرح أولى خطوات مسار تعافٍ متخصص في الكمالية، بوصفها أكثر من مجرد “صفة شخصية” بل نمط نفسي–اجتماعي–عاطفي متجذر.
دورة بعنوان: “الجَلاد تحت جِلدي: دليل لمَن يعاني”.
ليست دورة للعلاج السريع بل مساحة لفهم الجذور والبحث عن طريق نحو نفس أكثر اتزانًا ورحمة. لمن تعب من مطاردة الكمال ومن تكرار جلد الذات، قد تكون هذه بداية إعادة صياغة الحكاية.
تُعلن التفاصيل قريبًا.
حضور حيٌّ مباشر وتفاعلي.