نُشر من قبل في المدوَّنة السابقة بتاريخ 4 يناير 2019
لماذا لا نبوح بما لدينا؟ لماذا لا نُظهر ضَعفنا ومَواطن الهشاشة منا؟
هل نخشى الناس، نخشى أن يتهكموا أو يسخروا؟ ربما..
هل نخشى أن يتم الحكم علينا أو رفضنا؟ ربما..
هل نخشى أن يتم استغلالنا؟ ربما..
ولكن كل هذا لا شيء مطلقًا، إنما خوفنا الحقيقي من إشفاقهم المقزز!
ذلك الإشفاق البغيض الذي يمنحوننا إياه في ربتة تشجيع سمجة (ما تقولش على نفسك كده إنت جميل)! أو وعد تافه بأن كل شيء سيكون على ما يرام، أو ربما واحدة من مصمصاتهم اللزجة (يا عيني! يا حرام!)، أو ربما نصائحهم المعلبة (كن قويًّا، وهوِّن على نفسك)! أو ربما (استعن بالله أو افعل كذا وكذا)، كأنهم يظنون أننا نبحث عن حلول وتوجيهات، أو أننا جائعون لنصائحهم المنطلقة من أراضي المثالية الفوقية التي يتوهمون حيازتها!
ذلك هو ما نخشاه، ذلك هو ما يثير تقززنا، هو ما يستفز غضبنا!
لقد وقفنا وحيدين طويلًا، وسقطنا وحيدين وقُمنا وحيدين، ولم نسمح يومًا لأنفسنا أن نكون مَدينين لأحد، وكان دومًا آخِر ما نحتاج إليه هو بعض (المعلشة)!
لذا حين تدعونا الأمانة للإفصاح أو يُعلِّمنا التعافي أن نُخرج ما لدينا للنور كما هو بلا تلون ومراوغة، تكون خشيتنا الحقيقية هي أولئك (عواجيز الفرح)، الذين يُخرجون مناديلهم ويضعون أياديهم الملتاثة بالشفقة على أكتافنا ويغمروننا بالنصح والتحليل! نشم حينها رائحة العفن في الأجواء، رائحة الاستعلاء، رائحة الحُكم، رائحة الإنقاذية، رائحة الجهل!
لا يدرون أن آخِر ما يمكن أن نُقدِّمه لمَن يبوح بحقيقته ويُعرِّي مَواطن هشاشته هو الشفقة، لا يدرون أن تلك هي مجازفتنا الكبرى، واختبار التعافي الحقيقي هو أن نبقى نبوح بجسارة متجاهلين أهل الشفقة الفارغة، وحماقات المطيباتية وتعليقاتهم البشعة.
نعم، لم يؤلمنا حكم الحاكمين أو إقصاء أهل المعيارية ولا التندرات والسخرية. لم يؤلمنا الرفض ولم تداعب أذهاننا باستعادة الكتمان القديم نظرةُ انتقاصٍ نشاهدها بعين مُشاهِد عبَر بتجربتنا، إنما كان الاختبار الحقيقي في الإشفاق؛ أولئك هم الذين يمتحنون تعافينا حقًّا، فإن صمدنا مع تقززنا من شفقتهم، وابتلعنا سماجة طبطبتهم، وتماسَكنا في طريق الأمانة والإفصاح رغمًا عن تأويلاتهم ومحاولاتهم الغشيمة لتقديم الدعم، سنكون حينها قد تخطينا عقَبتنا الأكبر وخوفَنا الأضخم ووحشَنا الذي طالما كتم صوتنا وسرق حناجرنا: (إثارة الشفقة!)
حين نستعيض عن هؤلاء المشفقين بدائرة الثقة الجديدة من أهل التجارب الذين يعرفون المواجدة لا الإشفاق، والمشاركةَ لا التصدُّق بكلمة تافهة يظنونها دعمًا وهي أقسى من سوط الجلادين في تجربتنا! نثق بعلم الله فينا، ونُسلم له استياءنا وتقززنا، ونصبر على الشفقة المنسكبة من عيونهم وأفواههم مجاهَدةً تفوق صبرنا أمام نقدٍ أو حكمٍ أو استهانة.
اختبار تعافينا الحقيقي لم يكن في أولئك الذين صدحوا بالعداء، بل أولئك الذي قرروا تقديم العزاء!
حين نقرر أن ندعو لهم ونُسلم للرب استياءنا منهم وألمنا مما يظنونه مواساةً لنا، ونتجرعها صفعات تدعونا للندم على البوح! (اللهم ارزقهم النور والبركة والسعادة والسلام، وساعدنا أن نَقبلهم كما هم لا كما نريدهم أن يكونوا!)
