كوني زوجًا لامرأة عاملة مهتمة بوظيفتها ودراستها (طبيبة أمراض نفسية وعصبية) تمتد علاقتنا لأكثر من ثمانية عشر عامًا، يمكنني أن أجيب عن سؤال المكسب من عمل المرأة كالتالي، وأتمنى حُسن الظن:

‏إن المكسب الحقيقي لوظيفة الزوجة هو: “الاستثمار النفسي خارج حدود العلاقة”، فما الذي أقصده بهذا المفهوم؟

‏هناك خلط رهيب بين مفهومين في الخطاب الشعبي المتعلق بعمل المرأة: مفهوم (أولوية العلاقة الزوجية) ومفهوم (حصرية  التمحور حول العلاقة الزوجية).

‏إن العائلة أولوية، لكنها ليست كل شيء. وتحوُّل العائلة لمساحة وحيدة في حياة المرء ليس نافعًا كما يتوهم البعض، فاستثماراتنا النفسية والانفعالية والوجدانية ينبغي أن توزَّع بين عدد من المسارات، أهمها عائلتنا، لكن لا ينبغي أن يكون هذا هو استثمارنا الوحيد. وذلك من أجل صحة عائلتنا نفسها!

‏صب استثماراتنا النفسية وتوظيف كامل طاقاتنا العاطفية والانفعالية في موضع واحد يجعله أكثر اضطرابًا، إذ نكون أكثر تحفزًا، وأشد تحسسًا للإحباط، وربما أكثر تطلبًا وإرهاقًا نُحيل حياة مَن حولنا لشيء من الاختناق!

‏ينبغي أن أعترف أن وظيفة زوجتي إن لم تنفعني على المستوى المادي إلا إنها تنفعني على المستوى النفسي وتفيد علاقتنا إفادة حقيقية؛ فأفكارها موزعة بين عائلتنا وعملها، الذي يمنحها بعض الإشباع الذاتي والشعور بالقيمة فلا تستمدها حصريًّا من علاقتنا أو من تربيتها لأبنائها فقط، فتسبب لهم ضغطًا كبيرًا لأنهم لم يعودوا شخصيات مستقلة وإنما (مشاريع لإثبات الذات لامرأة محبَطة ليس لديها مسار تفريغ نفسي أو نمو لإمكاناتها سواهم)!

‏فإن لم يكن لدى الزوجة – والزوج كذلك – مسارات أُخرى للحصول على الإشباع، وميادين موازية للاستثمار النفسي، أصبحت كل المشاعر مصبوبة في جهة واحدة، فتجد حينها التقلبات المزاجية تُصب في غضبات تجاه الأولاد أو ارتياب تجاه الشريك أو تحسس مفرط لأي تغير في حرارة العلاقة!

‏أما إن كانت لدينا مسارات أُخرى لإثبات الذات فيمكن لها أن تتحرر من حظ النفس في الأمومة وتتمكن من استيعاب كون أطفالها ليسوا مشاريع إثبات جدارتها، وليسوا استثمارات خاصة وحصرية لحياة فارغة وإنما أناس لهم أقدارهم ورغباتهم، فتقوم بحق رعايتهم دون هوس أو هلع أو فرط حماية أو قمع! ومن ثم تصبح أمومتها وزوجيتها أكثر نضجًا واستقرارًا!

‏إن كل إنجاز تُحققه زوجتي في عملها يصب في شعورها تجاه نفسها بشكل أفضل فتصبح أكثر ثباتًا في صورتها الذاتية وبالتالي أكثر إشراقًا في علاقتها بزوجها وأبنائها!

‏ودعوني أعترف بأمر آخر: إن عمل زوجتي يُخبرني الكثير عن جودة علاقتنا، فهي تستطيع أن ترحل وقتما شاءت؛ يمكنها أن تُنفق على ذاتها بل على أولادها (إن أصابني الشيطان بلوثة أفقدتني مروءتي)، لذا فبقاؤها ليوم إضافي في هذه العلاقة هو لكونها تريد، لا لكونها مضطرة، فهي ليست أسيرةً في علاقة لأن الحياة سترهقها دونها. ولا أشعر أنني أتخذها رهينة بإنفاقي وأنها خارج أموالي ستعاني، ولا أشعر أنني (أختطفها) لكون حياتها خارج عائلتنا فارغة، بل ينتابني شعور يربت على مخاوفي الإنسانية الاعتيادية: إن هذه المرأة يمكنها أن ترحل متى شاءت، فبقاؤها ليوم آخر يعني أن الأمور على ما يرام. هي ليست جواري انطلاقًا من الاضطرار بل باختيارها الحُر، وأي حُب لا يرتكز على حرية لا يعوَّل عليه!

‏وأهم من ذلك كله أن عمل زوجتي يوصل رسالةً مهمةً لأبنائي: لا حاجة لكم إن أحببتم شخصًا أن تُفنوا حياتكم بأَسرها من أجله، يمكنكم أن تقوموا برعاية مَن تحبون وفي الوقت نفسه لا تُغفلون رعاية ذواتكم والاعتناء بأنفسكم وتحقيق أحلامكم، فالحب -والرعاية- لا يعني الفَناء في الآخر بل إن لكم نصيبكم في هذا العالَم فلا تدَعوه!

‏وبالتالي نحن نتفق على قاعدة تشملنا: كون أُسرتنا أولوية لا يعني أنها كل شيء أو أن حياة أيٍّ من أفرادها خاويةٌ دونها.

‏لذا أعترف بوضوح: أنا منتفع، وأسرتنا منتفعة، على المستوى النفسي والتربوي انتفاعًا واضحًا من عمل زوجتي. بل أقول بكل وضوح: ربما كنتُ سأصاب باحتراق نفسي إن كان كل الزخم الانفعالي لزوجتي موظفًا في علاقتنا فقط، وهكذا هي؛ لا أظن أن أعصابنا مخلوقة لتتحمل كامل الطيف الانفعالي لإنسان ليس لديه غيرنا!

‏جحيم هو حبٌّ بين طرفين منصهرين دون مسافات براح لالتقاط الأنفاس، وبغيضةٌ هي عائلة لا تسمح لك بكينونة خارج حدودها!

‏والسلام

تعليقان اثنان على “‏عن عمل المرأة وتأثيراته

  1. البارضي يقول:

    مقال جميل جاء في وقت افكر فيه بالجلوس من العمل .فانا قابلت ابناءي لمدة احد عشر سنة و عدت بعدها لمدة سنة للعمل لاحضت أشياء إيجابية في شخصيتي فصورتي الداتية تحسنت لكن اولادي مستواهم الدراسي نزل بحكم انشغالي . و حتى فكرة التركيز على الأبناء فقط تجعل هدفي الوحيد في الحياة هو نجاحهم و في حال لم يتحقق دلك ستكون صدمتي كبيرة .مقالك دكتور منطقي جداا اسكرك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

0