يَروي الفتى يومًا:

“قد كنتُ كائنًا زائدًا عن الحاجة..

هكذا كنتُ أرَى نفسي، في بيتٍ صغيرٍ أرضيٍّ في المساكن، مكون من غرفة واحدة للنوم وأُخرى للمعيشة قد وُضِع بها سريرٌ لإخوتي البنات، وكان جُحري هو أريكةٌ صغيرةٌ ملاصقة للحائط، تحت مكتبة كبيرة معلَّقة تعلوها. حتى كنت أَرى أرضيةَ المكتبة المُعلَّقة فوقي وأنا نائم.

كانت نومتي أشبهَ بالمقبرة؛ يعلوني سقفٌ يكاد يلمس رأسي، تُمثله أرضيةُ تلك المكتبة الكبيرة التي لم تكن تحوي كتبًا بل ملابسنا التي ضاقت عنها شقتنا/ مقبرتنا الأكبر. لم أكُن أنام، إنما كنتُ أدخل في (جِرابي) بين الكنبة والمكتبة! دومًا ما كانت تأتيني هواجسُ مؤرِّقةٌ متسائلةٌ: هل تم تثبيت هذه المكتبة بالقوة الكافية، أم تُراها تنتوي يومًا مشاركتي كنبتي، وأن تُهشِّم رأسي مُضَّجِعةً فوقي!

وقد زادت تلك الهواجس بعد حضوري زلزال 1992، ورؤيتي للهلع الجَمعي،
أتذكر أن أمي تركت إحدى أخواتي بالمنزل، وهي تحمل ما تبقَّى منَّا للشارع مهرولين هربًا من البيت المتأرجح بين الصراخ وطقات الحجارة والغبار ساعةَ الزلزال. (أصل سكان الأرضي مش بيطلعوا من تحت الأنقاض لو البيوت وقعت، عقبال ما بيوصلولهم بيكونوا فطسوا.. سكان الأدوار العليا همّا بس اللي بيتلحقوا)!

هكذا كانت تُخبرني أمي ونحن نشاهد البيوت المنكوبة وعملياتِ استخراج الضحايا في التلفاز، وكأنها تتحدث عن العالَم لا عن العمارات؛ تتحدث عن نجاة سكان الطبقات العليا الذين طالما تطلَّعَتْ هي إليهم، وكرهتُهم أنا بشدة. كانت لديها طريقةٌ مميَّزةٌ للغاية في تعريفي على العالم، قد أفادتني كثيرًا، فهو مكان مُوحِشٌ وعَدائيٌّ للغاية، ناهيك عن حوادث التحرش التي كانت تصبُّ عليَّ تفاصيلها الدقيقةَ وأنا ابنُ السنوات الخمس! (شُفت يا خالد، الولد اللي واحد قال له تعالَ أوديك لمامتك وراح معاه، وبعدين حطله منفاخ في فتحة “مقعدته” وقعد ينفخه وينفخه لحد ما بطنه فرقعت)! وكانت طريقتُها فعالةً للغاية، فهكذا تعلمتُ ألا أثق في الغرباء، بل لا أثق بأحد!

أصحاب الأدوار العليا كانوا دائمًا في نظري جنسًا مغايرًا، لا يمكنني أن أفهمه؛ يُقال لهم: أستاذ فلان ومدام فلانة بأسمائهم! وهم الذين يتم استنقاذهم من الحطام. أما أصحاب الأدوار الأرضية فكانوا يَحملون لقبًا مبدوءًا بأُم فلان وأبو فلان، تمامًا كلقب حارس العقار صاحب الغرفة المجاورة لبوابتنا.

كان بعض أصدقائي من أبناء أصحاب الأدوار العليا، وكنت دائمًا ما أشعر بنوعٍ من الدونية جوارهم، فأنا صاحب تلك النافذة التي أقفز منها على الشارع أحيانًا تعجلًا من الخروج من الباب! النافذة المفتوحة على غرفة معيشتنا التي طالما تلقَّت تنمُّرَ العابرين وعبثَ الأطفال الذين يستكشفون ذكورتَهم عبر تجارب المضايقة، التي ستُشكِّل رجولَتهم بأَسرِها فيما بعد!

يبدو أن التنمر، يا طبيب، عرَضٌ جانبيٌّ لَصيقٌ لنمو الخصيتين لدى الإنسان، عرَضٌ لا انفكاكَ عنه!

حين قررنا الانتقال من بيتنا لبيت جديد، أدهشني أنه سيكون بالدور الخامس (الخامس! لقد أصبحنا أغنياء إذن!) هكذا فكَّرتُ، لم يكن يَشغلني الموقع أو المساحة، قدْر ما شغلني أنني سأكون من أبناء أصحاب الأدوار العليا! وخاصةً أن البيت لم يَختلف كثيرًا في مساحته إلا في توفُّر غرفةٍ إضافية للبنات. أما أنا، فلا أزال بغرفة المعيشة على كنبتي التي رافقتني كناجيةٍ من منزلنا القديم. وقد أصبحت المكتبةُ (سقفي القريب) أكبرَ كثيرًا، وصرت أرى الروافعَ الحديدية (الخوازيق) المثبتةَ بالحائط الذي يحملها، وأتحسَّسُها كلَّ مساءٍ لأتأكد أنها لن تحتضني في تلك الليلة أيضًا!

أتدري، أتذكر فتاةً كانت تسكن بالعمارة المجاورة، ويبدو أن حائطها كان الوجه الآخَر لحائطي. يدعونها (أوشا)، وقد كانت جميلةً وجذابةً للغاية، (بنت فايرة) على حدِّ تعبير أمي، بإمكاناتها الجسدية مبالِغة البروز مع صِغر سِنها، فقد كنا في الابتدائية حينها. ولكنها لم تجذبني كثيرًا حدَّ محادثتها فقط، لأنها كانت متعثرةً دراسيًّا! وكنا في الصغر نرى الأشخاص من عدسة مُنجَزاتهم الصغيرة أكثرَ من ملاحظتنا لأجسادهم، فلم تغوني يومًا فتاةٌ متأخرةٌ دراسيًّا. كان الحب في الطفولة -كالعادة- متعلِّقٌ بـ (أشطر مَن في الفصل)، لذا تعلَّقَت بي العيون، وتعلَّق مني الهوى بسواها. أما (أوشا) فأتذكر أنها تركت الدراسة في بداية المرحلة الإعدادية وتمت خطبتها لأحدهم! (هي البت من يومها باينة إنها مش بتاعة تعليم، ومع جسمها “الفاير” ده كان لازم يجوزوها بدري) قواعد جديدة أستقيها من أمي، وترتكز داخلي محفورةً: الجميلات خطِرات للغاية على ذويهن، والجميلات -غالبًا- متعثِّرات بالدراسة، بل ربما الجميلات حمقاواتٌ وغبيّات، أما المتفوقات فهن أولئك اللواتي لم يَجِدن ما يكفي من الجَمال ليَشغلهن!

قاعدةٌ سأحملها معي يومًا إلى كُلِّيتي وأُمضي عُمرًا حتى أتخلص منها..

كانت (أوشا) قبل “فورانها” وقبل خطبتها، تطرق الحائط الذي يفصل بيننا بدقاتٍ خافتة، وكنت أَطرقه لها بالمثل، مجرد دقاتٍ مماثلةٍ تستمر طويلًا، يشعر كلٌّ منا أن هناك أحدًا ما على الضفة الأُخرى من الكون!

لم نتكلم يومًا، لم نلتقِ، فقط مجرد دقاتٍ متزامنةٍ متماثلة، لُغةٌ بلا معنى! حاولتُ بعد فترة أن أفهم (إشارات موريس) وأبحث عنها (وهي لغة مشفَّرة تَستخدم الدقات لإيصال الرسائل) في سنٍّ مبكرة، وربما قبل أن أبلغ العاشرة من عمري. بحثتُ عنها طويلًا في عصور ما قبل الإنترنت، ولكني يئستُ حين فكَّرتُ أن (أوشا) التي لم تكُن تُتقن جدولَ الضرب لم تكُن لتحملَ من الثقافة ما يكفي ليَدفعها الفضولُ لتعلُّم إشارات موريس! وهكذا اكتفيتُ بالدقّ، الذي استمر لفترة بعد “فورانها”.. ثم زال!

ومن وقتها ارتبط بلوغ الأنثى دومًا عندي بمفهوم “الفوران”، فالحيض يعني أنها “فارت” وصارت تُشكِّل خطرًا ينبغي سرعةُ مداواته!

وارتبط ذلك “الفوران” السخيفُ بخرس الإناث عن إرسال دقاتهن الطفولية الخالية من المعنى لطفلٍ آخَر على الجهة المقابلة من نكبة الوجودَ!

كل فتاة “تفور” كانت تكفُّ عن محادثتي -بأمرِ أهلها- إن صادفتني بالطريق، وتكفُّ عن اللعب والسمر.. والهوى! تَصير الفتاةُ فجأةً بعد “الفوران” كأنها تحمل سِرًّا خفيًّا مُخزيًا ينبغي مواراتُه، سِرًّا سأُمضي عمرًا في استكشافه!

***

كنتُ أُحب منزل جدتي، أُم أبي، ولم يكن ذلك الحب انطلاقًا من كونه من منازل الأدوار العليا، فقد كان البيت -ولا يزال- آيلًا للسقوط. تلك “الأيلولة” البادية على شروخه الضخمة ودرَجه المهشَّم وحوائطه الممزَّقة كحديثِ عهدٍ بقصفٍ مدفعي!
ولكنني كنتُ أُحبه بسبب ذلك الدفء الغرائبي الساكن فيه؛ بلاطه القديم، رائحته العطِنة، شراشفه المبللة بامتزاج عَرق الساكنين، صحونه المعدنية الحارقة بحرارة الطعام، وشُرفته قصيرة السورِ التي ساهمت، بسبب تحذيرات عماتي المتتالية من دخولي إليها، متزامنةً مع طول معيشتي بالدور الأرضي؛ ساهما معًا في تشكيل خوفي المفرط من الأماكن العالية، وإنبات فوبيا المرتفعات التي سأظلُّ أُعاني منها!

كانت مشكلات أُمي وصراعُها الدائم مع عماتي مَثارَ حديث لا ينقطع، وتقلبات في التواصل تهترئ معها أيُّ مقدرة على توقُّع ثباتِ العلاقات! كانت هناك حروبٌ دائمةٌ بين أمي وبين هذا البيت، بل يمكنني القول إنه طالما كانت هناك حروبٌ بين أمي وبين أي أحد، حروبٌ -ورثتُها عنها- بينها وبين الكون!

كان أصدقاءُ الأمس هم أعداءُ اليوم، الذين نناصبهم العداوةَ علنًا، ونقطع بهم الصلةَ ونَقذفهم بأعنف السباب. وربما تَحوَّلوا غدًا إلى أَحبَّةٍ مرةً أُخرى، وذلك ما لم أستطع فهمَه في علاقات (الكبار)!

عماتي الستة كُن نسوةً طيبات للغاية، وجدتي كانت دافئةً ومُحبة، ولكنني كنتُ أتقزز من طعامها ذي النكهة (الريفية) فكنتُ أهزل في مقامي لديهم. كان البيت مثاليًّا، ملاذًا بديلًا للاجئٍ من مقبرةِ النكبة والتقلُّب والتوتر والتأهُّب والغاراتِ الداخلية غيرِ معلومة المواقيت!

كانوا يروُون أن جدي شخصٌ قاسٍ وبشِع، قد كان يحمل (چين الوغدية) الأصليّ المتنقِّل بين الأجيال، مع السُّكري والألزهايمر. (جدك مات بالزهايمر، مات وهو شبه العيِّل الصغير اللي محتاج حد يغيَّر له، واللي حواليه قرفانين منه ومستنيينه يموت النهاردة قبل بكرة، وإنت كمان هتموت كده، كل رجالة عيلتكم هيموتوا كده!
واضح إن في النهاية العالَم مكان عادِل للأوغاد) هكذا أخبرتني أُمي حقيقةً جديدةً عن العالَم، وعن عالَمي المستقبلي.. ربما لهذا لا أخاف الموتَ قدْر خِيفتي العجزَ والجنون!

أحيانًا أتمنَّى أن أكتب وصيةً للأحبة:

أنني إن متُّ في عنفواني فاعلموا أنني ميِّتٌ سعيدٌ كرَجل محظوظ لم يُقابِلْ وحشَه المَخوفَ الأقسَى، أما إن وصلتُ للعجز والنسيان وفواتِ الحكمة للحدِّ الذي يُعييني حينها اقترافُ الرحيل طوعًا، فخيرُ ما يُمكن أن تفعلَه لي هو أن تقتُلني.. رجاءً.

والسلام.

***

قد كتبتُ يومًا نبوءةً، ربما كانت محض ملاحظة لظاهرة قدَرية متكررة، وهي أن (الأب الجيد يموت مبكرًا) ليترك لأبنائه وجعًا لا تُخفِّفه البدائل، وجرحًا لا يندمل، وألمًا لا يَسقط بالتقادُم، وفقدًا تفُوق قسوتُه ألمَ غيابِ العطاءِ أصلًا؛ فالسلب بعد العطاءِ ربما يكون -أحيانًا- أشدَّ وطأةً من الحرمان ابتداءً بلا تذوُّق!

فلا يُمكنك أن تفقِد شيئًا ما لم تحصل عليه أصلًا!

أما الأب السيئ فيُعمَّر طويلًا، ويَطول بقاؤه في الأذى والإساءة، ثم هو يكبر ويَضعف فيُضطر أبناؤه للغفران شفقةً بحاله، فيُختَم له بدورانهم في فَلَك مَرضاته والعناية به!

لماذا يربح الأوغادُ دومًا!

وكأن الحياة تتعمَّد التنغيص، فتُزيح الطيبين، وتُبقي الأشرار حدَّ حصولهم على الغفران بفعل الرحمة الموروثة فينا للتجاعيد والشفقة بذوي القلوب المريضة، والرأفة بأصحاب الشيبة وآلام العظام!

لذا، لا خيار، إما أن تكون أبًا جيدًا، وإما أن تعيش طويلًا!

يُخبرني صديقي أن نظريتك تلك محض هراء، بدلالة أن كثيرًا من المشايخ وعلماء الدين قد عمّروا طويلًا، ولكنني أُخبره أن رجال الدين ليسوا آباءً جيدين! بل إن الدين -للأسف- يَحتل مكانةً مميزةً للغاية في العوامل المشترَكة بين سِمات الآباء الأوغاد!

يبدو أنني ورثتُ الحربَ مع الدين مع “تركة” أمي من الحروب!

***

نعود لمبدأ الحكي: كنتُ كائنًا زائدًا عن الحاجة..

لذا كان عليَّ -مبكِّرًا- أن أُوجِد لوجودي فائدةً ما! كان وجودي متعلِّقًا ببحثي عن فائدة ما، عن نفعٍ ما لمروري بالعالَم، عن إنجازٍ ما أشعر معه أنه يُبرر لي التنفسَ والبقاء. مَقيتةٌ هي فكرةٌ تحتلُّك تُخبرك أنك تحتاج إلى أن تُبرر وجودَك بتحقيق شيء ما، أو “أن تكون شيئًا ما”.. (عاوز أبقى حاجة!)

كنتُ أرى نفسي محضَ خطأ يُحاول البحثَ عن تصحيح! أنا خطأ.. وحياتي بأَسرها محاولةٌ لحشد المبررات لتسويغ هذا الخطأ، لا أكثر!

تبدأ الحياة بعقيدة (أنا خطأ) وأُحاول أن أُنهيَها مُستكمِلًا بعقيدة (كنتُ خطأً، نعم.. ولكنني كنتُ خطأً ذا فائدةٍ موازية! خطأٌ له ما يكفي من الآثار الجانبية من النفع المُصاحِب!)

أُحاول أن أُنهيها فقط بعقيدة (كنتُ خطأً جميلًا!)

وربما لن يكون الجَمال الموازي لوجودي الخاطئ سوى أن أُخبر كلَّ مَن يرتطم بي في الحياة، ممَّن يَرَون أنفسهم أخطاء؛ أُخبرهم أنهم ليسوا بأخطاء.. بل إنهم -هم بالذات- أحدُ تجليات الصوابِ في هذا العالَم المعطوب!”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

0