رابط المقال الذي ندور حوله للمطالعة (بالإنجليزية):
من هنا
تعليقات على مَقال جيمس ستراتشي
طبيعة الفِعل العلاجي في التحليل النفسي
عماد رشاد عثمان – مصر
يَكمن جزءٌ من إبداعية هذا المَقال في عنوانه، فبينما قرأته في سياق البحث حِيال التحويل، أَجده يتمحور حول فكرة التأويل، أو بالأحرى: نوعٍ خاصٍّ من التأويل يُسميه (التأويل التعديليmutative interpretation)، مُضطرًّا لتقسيم التأويلات:
- حسب مَناطها إلى: (تحويلية وتأويلات خارج التحويل).
- حسب توقيتها: متأقتة بالإلحاح immediacy، وأُخرى يراها باردة.
مُشيرًا لتأويلات تنبعث من مساحة تحريرٍ لدَفقات الليبيدو ومن ثَمَّ فهي تتسق وروح الموقف التحليلي، وأُخرى إنما تنبثق من (إيحاء) أو تُشبع رغبةً، وبالتالي فهي موضع سؤالات وإشكالات.
وهكذا نجِده يصِل بنا في النهاية لنوعٍ من التأويل عليه يقوم العمل العلاجي برُمته ويُناط به فعل التغيير، وهو ذلك التأويل التعديلي، والذي يَحمل خصائصَ سيَدور معها طيلة مَقاله بين إيضاحٍ وتشذيبٍ ليَصِل إلى تعريفٍ يَحدُّه ويرسمه ويَفصِله عمَّا سواه، وأهم تلك الخصائص هو اتصال ذلك التأويل بشكل مباشِر بالتحويل.
وهكذا يربط ستراتشي في المَقال بين جوانب من التقنية لطالما ذُكرَت مستقلةً وبُحثَت مستقلة، وبِسَمته المعتاد يربط النقاط المبعثَرة عارِجًا بنا إلى اتصالها بالميتاسيكولوجيا التحليلية، ليكون في عَرضه لأُنموذجه المُتكامل (اختلفنا حِياله أو اتفقنا) عن التأويل التعديلي، يَصنع ما يُشبه ميتاسيكولوجيا العلاقة التحليلية/ التحويلية وتأثير التأويل، واضعين ذلك في الأذهان يُمكننا أن نَفْقَهَ سِرَّ تميُّز العنوان الشمولي الذي وضعه لمَقاله (طبيعة الفعل العلاجي في التحليل النفسي).
مقدمة جلين جابارد
دومًا ما تُدهشني قدرةُ جابارد على أن يُمثل قراءةً معاصِرةً ومتطورةً للتحليل النفسي متسقةً مع الطَّرح العلمي الرصين، وتُقدِّم نفسَها بلُغة يَفقهها المعالِج العادي، مدرِكًا أن وراءها بناءً عميقًا يُغويه بالبحث وراءه؛ إنه الرجل الذي يجمع بين اعتراف الرواق الطبي في مَظهره الحالي، وبين عمق التحليل النفسي بمدرسة العلاقات بالموضوع في تبسيطٍ لا يَختزل ولا يُسطِّح.
صفحتان صغيرتان يحويان إشارات بالغة الأهمية، وتلخيصاتٍ دقيقةً لمسار المقال برمته. تبدأ بإدراكه جوهرَ موضوع ستراتشي، وهو الجَدل حيال (ميكانيزم التغيير في التحليل النفسي) والذي انقسمَت إزاءه الرؤى لِما يمكن جمعُه في تياريْن رئيسيْن:
- فضُّ الصراع الداخلي عبْر التحويل ثم تأويل التحويل.
- العلاقة العلاجية ذاتُها هي حامل التغيير (العلاقة التصحيحية).
ويرى جابارد أن جوهر رؤية ستراتشي القائمة على (التأويل التعديلي) الذي يُركز على التشويه الذي يُجريه التحويلُ على الواقع (واقعية المُحلِّل)، مستندًا في موقعه الذي يبدأ منه على دوره كـ (أنا أعلى مُعضِّد) للمريض، ومن خلال هذا الموقع يمنح المُحللُ سماحيةً للمريض للتعبير عن حفزةٍ للهُو وتحريرِ دفقةٍ من طاقتها العدوانية. وبوجود المحلل يتمكَّن من تغيير طبيعة الموضوعات المُستدمَجة، فحين لا يتصرف المُحلل تبعًا لتوقُّعات المريض المُستقاة من طبائع حفرياتِ موضوعاته الداخلية الأصيلة (أو حين لا يتصرَّف على الإطلاق) فإنه يكسر حلقةً مفرَغةً يستمر المريضُ وعُصابُه في نسجِها في سلسلةِ تَكرارٍ لا تنتهي، وهكذا يَستدمج المريضُ موضوعًا جديدًا، في البداية أقلَّ حدَّةً وقسوةً من أناه الأعلى مُخفِّفًا من شِدته.
وفي هذه العملية هناك مرحلتان: الأولى يساعد فيها المُحللُ مريضَه أن يَعي بحالة التوتر الداخلي والمرتبطة بتهديدٍ من الأنا الأعلى في استجابةٍ من ظهورٍ لإحدى حفزات الهُو، وفي الثانية يَعي المريضُ أن الموضوع التخييلي (الداخلي) والموضوعَ الواقعي (المُحلِّل) هما مختلفان، حين لا يتعامل المحلل كموضوع تخييلاته (لا يُصدَم، لا ينفعل، لا يَغضب، لا يَنخرط في تفاعلية مُكمِّلة).
ثم يَعرج بنا جابارد -باطِّلاعه الواسع- في رحلةٍ قصيرةٍ مع بعض الأطروحات حيال التحويل وقضيةِ الأثَر العلاجي، ابتداءً من ورقة هانز ليولد الكلاسيكية التي أثارت زخمًا كبيرًا في تناولها، والتي ترى العمليةَ التحليليةَ هي عملية (إعادة والدية reparenting)، مرورًا بكلٍّ من بيون ووينيكوت ومفاهيم (الحاضنية والاحتواء)؛ حيث يحتوى المُحللُ الوجدانات والتمثيلات الداخليةَ للذات والموضوع التي يُلقيها المريضُ لديه ويُسقطها عليه، وكأنه يُطالبه بنزع سُمِّيتِها detoxify ثم إعادتها له وقد تمَّت معالجتُها على هيئة نسخةٍ معدَّلةٍ ليتمكن من استدماجها دون أن تُثير تلك المكابدةَ العُصابية.
ويناقش قُطبيةَ الصراع في محكِّ التأثير العلاجي، ليصِل في النهاية إلى أن كِلا العامليْن (الاستبصار بما هو لا واعٍ + التجربة التصحيحية) يتضافران بشكل مُتعاضِدٍ في تحقيق مثلِ ذلك الأثر.
وقد مرَّ جلين جابارد سريعًا على مفهومٍ قدَّمه (انريكو جونز)[1] وأَطلق عليه (البُنَى التكرارية للتفاعلات) دون أن يَفصل فيها، مُحرِّكًا فضولنا لنتوقف عندها قليلًا لِما تطرحه من رؤيةٍ مُجاوِزةٍ للضِّيق المَدرسي والمحاصَرةِ النظريةِ التي تُملي علينا -أحيانًا- رؤيتَنا فيما يتعلق بسؤال: (الفعل العلاجي والأثر العلاجي والعملية العلاجية). وسأقوم لاحقًا بتناول روحةَ جونز تفصيلًا.
ثم يُشير جلين جابارد إلى حالةٍ سادت أدبيات التحليل النفسي -في رأيه- لفترةٍ طويلة، تتعلق بالتغافُل عن ميكانيزمات التغيير غير المُنبثقة من التأويل، مُستلهِمًا تقرير فاليرشتاين عن مشروع ميننجر للعلاج النفسي (وهو مشروع دراسةٍ بحثية تتبَّعت العلاج التحليلي لاثنين وأربعين مريضًا) ليَخلص إلى نتائج مَفادها أن التغيير المُستدام ربما يَحدث نتاجًا لمقارباتٍ علاجيةٍ غيرِ قائمةٍ على التأويل بل قائمةٍ على تقديم الدعم، بل إنه حتى داخل أكثر العلاجات (التعبيرية) كالتحليل النفسي ستُفاجئنا كثيرٌ من العوامل (التدعيمية). ليَخلص جابارد في النهاية إلى أن العلاج بالتحليل النفسي إنما يَقع -في الحقيقة- على مدًى مُتصِلٍ بين التعبير والدعم supportive-expressive continuum، وأن الاستقطاب بين الجبهتين إنما هو استقطابٌ نظريٌّ فحسب، وأن الفروق والحدود ليست بمثلِ هذا الوضوح القاطِع والفَصل الصارم، وأن كثيرًا من المرضَى في العلاج بالتحليل النفسي يَعترفون أن كونهم مفهومين من خلال التأويل لهو أكبرُ تجربةِ دعمٍ قد حصلوا عليها يومًا.
انريكو جونز
تقوم رؤيةُ انريكو جونز[2] على تحليل معطيات دراساتٍ قامت على ما يُسمى باختبارQ للعملية العلاجية[3]، الذي طوَّره جونز في عام 1985 ليَقيس عمليًّا طبيعةَ التحالف العلاجي وعوامل تأثيره في النتائج النهائية للعلاج. وقد لاقَى عملُه ذلك قبولًا واسعًا بين المدارس، وبالأخص الرؤية التحليلية المعاصرة والمدارس الدينامية على اختلاف توجهاتها. كما نلحظ تأثيراتها على قراءة جلين جابارد للمقالة الخاصة بستراتشي. ونُلخِّص رؤيتَه فيما يلي:
- إن الأطروحات حول التأثيرات التعديلية في العلاج تقوم على أحد شِقين: التأويل أو التفاعل البَينشخصي في العلاقة العلاجية.
- فأولئك الذين يُركِّزون على التأويل تتمحور نظرتهم حول معرفية العميل الذاتية بنفسه ومرضه، وأهمية الفهم، والوعي والاستبصار.
- أمَّا مَن يُركزون على التفاعل وجَودة العلاقة العلاجية فإنما يَدورون حول مفاهيم المواجدة واحتواء المشاعر والبيئة الحاضنة والتحالف العلاجي، مُشددين على مدى أهمية ترميم العلاقات بالموضوع عبْر علاقةٍ شافيةٍ يستأنف من خلالها المريضُ نموَّه المتجمدَ جرَّاء صدمةٍ أو حرمانٍ في علاقاته الأبكَر.
- مداران يسيران بقدْرٍ نِسبيٍّ من التوازي، تَقطعهما الجدالات الدائرة حول (صوت وحيد) مقابل (علاقة حقيقية من طرفين) كمرتكَزٍ للعملية العلاجية؛ منهجية (التأويل) مقابل منهجية (التفاعل العلاجي).
- وكان هدف مشروع جونز هو أن يَدمج الاستقطاب في نموذج يُحدِّد بشكل واضح البنَى المؤسِّسة لكل التفاعلات العلاجية بشكلٍ يتجاوز التنظيرَ المدرسيَّ والاختلافَ في التقنية (وإن بدا واضحًا تأثيرُ مدرسة التحليل النفسي العلائقي والرؤى البَينشخصية في النموذج).
- إن المريض والمُحلل يتفاعلان بطرائق متكررة هي تجليات ظاهرية لطبيعة التحويل والتحويل المضاد، وتلك الأنماط العَصية على التغيير لا محالةَ تكون محكومةً ابتداءً بالبنَى التكوينية النفسية الأصلية لكلٍّ من المُعالِج والمريض، ويَقبع الفعل العلاجي في جوهره في فهم كلٍّ من المُعالِج والمريض طبيعة تلك الأنماط والتعرُّف عليها والعمل من خلالها، وهو ما سنتناوله تفصيًلا بنهاية التعليق في جزئه الثاني.
عرض المقال والتعليق عليه
إشكالية الترجمة:
قد قابلتني إشكاليةُ ترجمةٍ في الصفة (mutative) فبحُكم خلفيتي الطبية كنتُ أربطها بالطفرة، ولكن مع سَيري بالمقال وجدتُ الحِمل المعنوي للفظة لدى ستراتشي يختلف عن مردود أحمالها وتمثيلاتها المعنوية في استخداماتها الطبية الحالية، لأُضطر للعودة لرحلة المصطلح لأَجِده وإن كان مستخدَمًا منذ أواخر القرن التاسع عشر إلَّا إنه لم يتبلور بشكله الحالي (وأحماله المعنوية في البحث الجيني) إلَّا في أربعينيات القرن العشرين، وأن ما كانت تحمله اللفظةُ قَبلها لم يكن سوى مضامين (التغيير) وربما (تغيير طفيف خافت غير مدرَك بالحسِّ البَدهي) يتراكم ليُنتج تغييرًا ملحوظًا، وهو ما يُشبِه الحِمل الدلالي الذي يدور حوله ستراتشي وقتَ كتابةِ المقال في أواخر الثلاثينيات. (وإن تغيَّر فيما بعدُ في السياق الجيني ليكون تغييرًا طفيفًا نعم ولكنه يُنتج أثرًا هائلًا، وليس ذلك بمقصودِ المقال).
الإشكالية الثانية في اللفظة هي استخدام صيغة الصفة بلاحقة ive وليس بلاحقة ing، أي كونه استخدم mutative ولم يستخدم mutating، وهو ما يقابِل في اللغة العربية الصيغةَ المَصدرية للصفة لا الصيغةَ الفاعلة، ومن ثَمّ كانت الترجمةُ الأقرب للحِمل الدلالي للنَّص الأصلي: (تأويل تعديلي) بدلًا من (التأويل المُعدِّل أو المُغيِّر)، وهو ما ارتحتُ إليه في النهاية، وذلك لارتباطه الوثيق لدى ستراتشي بقرينة alterationالتي لا تكاد تَغيب عن سياق ذِكره للفظة بأي موضع.
- إن ما يُميز أسلوب ستراتشي هو السلاسة والبساطة والمباشَرة وكثيرٌ من الدفء واللطف الذي يتسلل بين حروفه، حتى وهو يكتب عن موضوعٍ نظريٍّ، وتِقني. ولا عجبَ أن يَقع عليه اختيارُ الأقدار ليُكلل أسلوبه ترجمة أستاذه.
- جميلٌ أن تقرأ لستراتشي؛ تبدو كتابته كحديث مُعلم ودودٍ يُكرر أفكارَه اكتراثًا لأمر قارئه، ويُرتبها في منهجيةٍ تتابُعيةٍ تَربط سابقَها بلاحقها.
- جميلٌ أن تشهد مساحةً من عظَمة التحليل النفسي حين يجِد رَجل كستراتشي موضعَه في تاريخ المَبحث النفسي دون تمييز، ويكون موضعه ربما من المواضع التي حَظيت باحترام مشترَك بين مريدي كافة المدارس تقريبًا. وإنما يستدعي ذلك قولَه ذات مرة في غمرةٍ من ذكرياتٍ متحدِّثًا عن نفسه: “كنتُ بلا سِيرةٍ أكاديمية تُذكَر، اللهم إلا بكالوريوس عديمَ القيمة، وبلا مؤهلاتٍ طبية، وبلا خبرةٍ من أي نوع في أي مجال إلَّا خبرةً شفيفةً في صحافة الدرجة الثالثة، لم يكن ثمة شيءٌ في صالحي إلَّا أنني -وفي سن الثلاثين- كتبتُ رسالةً هكذا بلا اتفاقٍ أو سابقِ معرفةٍ، لفرويد، سائلًا إياه أن يَقبلني واحدًا من تلامذته”[4].
- يبدأ ستراتشي في المقدمة مُبينًا تلك الحيرة التي تنتاب المرءَ محاوِلًا فهمَ كُنه العملية التحليلية، ومن ثَمّ إجابة سؤال: ما الذي يُحدِث التغيير -بالضبط- في العملية العلاجية التحليلية؟
منتقلًا بعدها -كعادة المكتوبات الرصينة- إلى نظرةٍ تاريخيةٍ حول المفهوم المطروح، مُتتبعًا تناولَه في أدبيات التحليل وبالأخص لدى فرويد في أعوام كتابته عن التقنية 1912 – 1917، وكذا في الفصل السابع والثامن والعشرين من محاضرات تمهيدية.
المقاوَمة وتحليل المقاوَمة:
ينطلق ابتداءً من ارتكاز تلك الفترة على مفهوم (تحليل المقاومة) مستدعيًا وظيفةَ العرَض العُصابي في كونه تسويةً تَحمل مفارقةً: حيث يَحمي المريضَ من مَيلٍ حفزيٍّ لا واعٍ غيرِ مقبولٍ بالنسبة له، وفي الوقت نفسه يُحقق شكلًا من الإشباع لهذا المَيل/ الحفزة بقدْرٍ ما.
مُوضحًا أن الفكرة العلاجية كانت تقوم في البداية على أنه إذا استطعنا جعلَ هذا المَيل اللاواعي واعيًا بالنسبة للمريض، ستزول الحاجةُ للعرَض ومن ثَم يتلاشَى.
ولكن قد ظَهر إشكالان في مبتدأ تاريخ التحليل: أولهما مقاومةُ المريض للمحلل، وثانيهما أنه حتى بعد تَحقُّق معرفة المريض بالمُنطلَق الحفزي اللاواعي لأعراضه، فإن بعض هذه الأعراض قد ظلَّ دون تغيير يُذكَر، لنكتشف أن معرفةَ المريض لا تَعني تَحقُّقَ الوعي بها (أي تَحقُّقَ انتقالها من اللاوعي لتُصبح واعية).
“إن المقاومة حتى وإن كانت لاواعية إلا إنها لا تنتمي تمامًا إلى اللاوعي من وجهة النظر الهيكلية، فالمقاومات جزءٌ من أنا المريض؛ الأنا الذي هو في حالةٍ من التعاون معنا، ومن ثمّ فهو قابلٌ للوصول بالنسبة لنا… ولكن الأنا لن يتم تحفيزه للقيام بالعمل من حيث التوليف والتكيُّف المطلوب منه إلا إذا تمكننا من توظيف بعض القوى النضرة وتحريكِها في صالحنا من خلال العمل التحليلي… عن أي قوة نتحدث؟ عن رغبة المريض في التعافي”.
“يمكننا أن نجعله يفهم بُنيان أعراضه… يمكننا أن نشير له إلى حقيقة أن دوافعه الحقيقية باليةٌ ولم تعُد ذاتَ مغزًى هنا، … وربما في النهاية يمكننا أن نؤكد أن الحل الذي استخدمه لصعوباته الأصلية لم يؤدِّ به إلَّا إلى السقوط عليلًا … ولكن فقط من خلال بقعةٍ مختلفةٍ بالكلية ينبثق العاملُ الأكثر نجاعةً، العاملُ الذي أكاد لا أحتاج أن أَذكره، ألا وهو التحويل”.
التحويل:
لدى العُصابي، ونظرًا لاضطرابه، فإن هناك كميات كبيرة من الليبيدو غيرِ المقيَّد، الليبيدو الحائم بلا اتصال، لذا يكون المَيل لتكوين التحويل -بالتبعية- كبيرًا، إذ يتم توجيه هذا الليبيدو واستثماره في المُحلل.
وربما تُسهم تلك الطاقة التحويلية -وبالأخص الصورة الإيجابية منها- في حثِّ أنا المريض وتزويدِه بالطاقة اللازمة للتخلِّي عن مقاومته وإزالة الكبت وتبنِّي حلٍّ جديدٍ لمشكلةٍ مُوغلةٍ في القِدم. وإن هذه القوة ليست في حقيقتها سوى قوة الإيحاء نفسها التي تم التخلي عنها في مسار التحليل التاريخي مبكرًا، ولكنها اليوم تعمل في اتجاهٍ عكسي، أي بدلًا من أن تزيد الكبتَ فإنها ترفعه!
ولكن التحويل ليس على هذه الصورة وحدها، وإنما ينقسم لتحويل الطاقة الليبيدية، وتحويل الحفزات العدائية، وبلا شكٍّ لا تكون الحفزات العدائية في التحويل في صالح العمل التحليلي (التحويل السلبي).
أما تحويل الليبيدو فينقسم بدوره لقسمين: نوعٍ يحمل المشاعر الإيجابية الدافئة التي تُشبه مشاعر الصداقة، وهو يَصب في صالح التحليل من حيث خفضِه لقوى المقاوَمة، ونوعٍ آخَر شبَقي إيروتيكي نقي غالبًا ما يبقَى لا واعيًا. وحين يُصبح التحويل من هذا النوع قويًّا فإنما يَستثير قوى الكبت لدى الأنا، وبالتالي يَزيد من المقاومات بدلًا من أن يُقلِّل منها، بل ربما لا يَسهل تفريقُه عن التحويل السلبي.
وقد وُجِد أن التحويل نفسَه يُمكن تحليلُه، بل إن تحليلَه ربما هو الجزء الأهم في العملية العلاجية برمتها.
💡 وهو ما يدعونا للتفكُّر في ذلك الرواج والوجاهة التي حظِيَ بها الأسلوب العلاجي المُسمى (العلاج المُنبَني على التحويل) والمؤسَّس على يد كيرنبرج، في الأروقة العلمية، حيث وضع تلك الفكرةَ أساسًا لعلاج ممنهَجٍ ومؤصَّلٍ في دليلٍ تدريبيٍّ يقوم على محورية التحويل -ومن ثم تأويل التحويل- في التأثير العلاجي، وبالتالي اختصر كثيرًا من الوقت الذي يَفنَى في (تأويلات غير تحويلية) وجعل التحويل لكونه مرتكَزَ العملية العلاجية هو كذاك مرتكَز نظر المحلِّل والمريض ومسرح العمليات الرئيسي. مُقدِّمًا نموذجًا أكثرَ تكثيفًا في الوقت والجهد، ومن ثَمَّ مُوافِقًا للنزعة المعاصرة، ولخطابها العِلمي (لاعتماده دليلًا تفصيليًّا للعمل، وأساليب قياسٍ موافِقةٍ للنزعة التجريبية)، مُحدِثًا حراكًا لا يُمكن إغفالُه سواءٌ اتفقنا معه أو اختلفنا.
عبْر التحويل نجِد أنفسَنا منخرطين في مواقف فعلية وطارئة، نكون فيها نحن (المُحلل) والمريض الأبطالَ الرئيسيِّين في القِصة التي يكون تطوُّرها -بشكلٍ ما- تحت سيطرتنا. وعبْر جلب هذا الموقف التحويلي من إعادة المعايشة يختار المريضُ حلًّا جديدًا بدلًا من الحلِّ القديم؛ فالطريقة البدائية القديمة عبْرَ الكبت تَحِلُّ مَحلَّها استجابةٌ سلوكيةٌ أكثرُ اتصالاً واتساقًا مع الواقع، إنه حلٌّ للصراع الطِّفلي في نسخته الجديدة المُعاشة في التحويل.
💡 هنا لا يتحدث فقط عن (تأويل التحويل) بل يتحدث -بشكلٍ ما- عن (تجربةٍ تصحيحيةٍ) من خلال التحويل وتأويلِه، وليس فقط عن الوعي بما هو غيرُ واعٍ به.
يقول فرويد في محاضرات تمهيدية: “إن التغيير يصبح ممكنًا عبر تغييرٍ يَحدث في الأنا من خلال إيحاءات (اقتراحات) المحلل، وعلى حساب اللاوعي يتمدد الأنا ويتسع من خلال تأويلات المحلل التي تجعل المادة التي لا يَعيها المريضُ واعيةً، فيصبح فزعُ امتلاك الليبيدو الشخصي واستيعابُه أخفَّ”.
الأنا الأعلى
💡 ينطلق ستراتشي من تحليل موقفِ التنويم والمنوِّم وموقعِه ليَقيس عليه موقع المُعالج، واضعًا إياه في موقعٍ مُوازٍ للأنا الأعلى الأصلي للمريض، ويُسميه (الأنا الأعلى المُعضِّد).
يُضيف ستراتشي -في قراءةٍ للمقولة السابقة من فرويد- أن ما كان يقصده فرويد هنا هو حدوث تغيير في ذاك الجزء من الأنا الذي ينفصل مكوِّنًا الأنا الأعلى، أي ببساطة: أن موضع التغيير المزمَع عملُه من خلال العملية التحليلية هو بالأحرى -في قراءة ستراتشي- الأنا الأعلى، وعبْر الأنا الأعلى -فقط- يُمكن للمحلل إحداثُ التغيير في مريضه.
يَرفض فرويد نظرةَ بيرنهايم أن كل التنويم يمكن ردُّه في النهاية إلى عمليةِ الإيحاء، ليُقدِّم فرويد رؤيةً أُخرى وهي أن الإيحاء ليس سوى تَجلٍّ جزئيٍّ لحالات التنويم.
إن القائم بالتنويم تمامًا كموضوع الحُب “يخطو متمركزًا في موقع (مثال الأنا) لدى الشخص”. ولمَّا كان بعض تأثير المحلل في تغيير سلوك المريض إنما يتم حقيقةً عبْر نوعٍ من الإيحاء (الاقتراح)، فهو بهذا يدلف موقعَ الأنا الأعلى للمريض.
قد حكى ألكسندر يومًا نظريته التي تدور حول أن الهدف الرئيس للتحليل النفسي هو التدميرُ الشامل للأنا الأعلى، والمساعدةُ في أن يتقدَّم الأنا ليَضطلع بدوره. وتبعًا لهذه النظرية فإن تلك العملية تقوم على مرحلتين: في الأولى يتم تسليم مَهامِّ الأنا الأعلى إلى المُحلل، وفي المرحلة الثانية تتم إعادةُ تلك المَهامِّ للمريض ولكن هذه المرة لأناه. (الحقيقة أن ألكسندر قد حدَّد الأنا الأعلى باستخدامه المقيَّد بلفظة: الأجزاء اللاواعية لمثال الأنا).
وتلك المساحة من الجهاز النفسي هي موضِعٌ بدائيٌّ بالٍ عفا عليه الزمنُ، منقطعُ الصلة بالواقع وغيرُ قادرٍ على الموائمة وتكييف نفسِه، ويقوم بعملياته تلقائيًّا بما يُشبه الأفعالَ الانعكاسية.
💡 لم يوافق ستراتشي تمامًا على نظرة ألكسندر بحتمية تدمير الأنا الأعلى، واعتبار ذلك محور العلاج. ولكن على الرغم من ذلك قد تبنَّى بعض تلك النظرة مُكمِلًا بها نظرته الأولى؛ فالمحلل سيَحلُّ مَحلَّ الأنا الأعلى، لا عبْر تدميره بل عبْرَ قيامه بدور (أنا أعلى انتقالي – وسيط – مُعضِّد) كأننا هنا لا ندمِّر الأنا الأعلى قدْر سَحبِ صلاحياته، لا ننقلب عليه بل نُحوله من امبراطور يَسطو بكلمته إلى ما يُشبه ملكَ الإنجليز، وظيفةٌ شَرفيةٌ لحفريةِ نظامٍ كان يرقد هنا يومًا ويُسهم بأسواطه في نوباتِ الذنب ومشاعر الإثمية.
💡 يستلهم ستراتشي فكرةَ المرحلة الانتقالية للأنا الأعلى وانتقالِ المعالج لموقعٍ شبيهٍ يُنافِس موضعَ الأنا الأعلى الأصلي، من اصطلاح ساندور رادو عن تحوُّل القائم بالتنويم إلى (أنا أعلى طُفَيلي دخيل)Parasitic super ego، ليَضع مكانه اصطلاحًا يُلائم وضعَ المعالِج ويَخلو من تلك الأحمال المعنوية لفكرة الطُّفيلية والاقتحامية، فيُسميه (الأنا الأعلى المُعضِّد)، وإن كانت كل إشاراته يوافِقها أكثرَ ترجمتُه (الأنا الأعلى الانتقالي أو الوسيط) وذلك لكونه يتولَّى عمليةَ تسليم السُّلطة من الأنا الأعلى الصارمِ القديمِ إلى أنا المريض الناضجة حديثًا، عبْرَ مرحلةٍ انتقاليةٍ يقوم فيها تمثيلُ المُحلل المُستدمَج بدَور الوساطة!
ثم يَعرج بنا ستراتشي ليشرح لنا أساسيات رؤية ميلاني كلاين، ليتمكن من استعمال أفكارها حيال الحفزات العدائية وتكوين الأنا الأعلى عبر الاستدماج. وفي عرض ستراتشي لأفكار كلاين نجِد الحماسةَ التي يمكنك أن تستشفَّها بين سطورِه والإجلالَ والتقديرَ لعملها. ولا عجبَ، فقد كان جيمس ستراتشي وزوجته أليكس من الداعمين لكلاين بوضوح، حتى وإن اختار التوقُّفَ في الصراع بينها وبين فصيل آنا فرويد في الجمعية البريطانية للتحليل، إلَّا إنه ساهم بشكل كبير في حصول أعمالها على مثل ذلك الرواج والوجاهة.
وعرضُ ستراتشي المركَّز والمختصَر لجوهر طرح كلاين، على تركيزه وإيجازه إلَّا إنه نفيسٌ في دِقته وعمقه.
- يسقط الطفل حفزات الهو العدوانية على الموضوعات الخارجية، ثم يستدمج تلك الموضوعات لتُمثل موضوعاته الداخلية المكوِّنة فيما بعدُ للأنا الأعلى، وتتسم الموضوعات المستدخَلة بسمات حفزات الهو نفسِها، المتوجِّهة ناحية الموضوع الخارجي، لتَعود وتتوجَّه -من قِبل الأنا الأعلى- ناحية الأنا.
فإذا كنا نتحدث عن حفزة عدوانية فموية، ستكون الموضوعات المستدمَجة عدائيةً بشكل فموي، مما يؤدي إلى أن تتسم حفزاتُ الهو بمزيدٍ من العدائية، فمزيدٍ من الإسقاط والاستدماج لموضوعاتٍ أشدَّ عدائيةً. وهكذا تتعالَى نغمةُ العدوانية من الأنا الأعلى بفعل هذا الاستدماج التصاعدي في شكلٍ من الحلقة المفرَغة المستدامة.
وحين يدخل الطفلُ المرحلةَ التناسليةَ تَسود الحفزاتُ الإيجابية الليبيدية، ومن ثَمَّ يُصبح توجُّهه تجاه الموضوعات الخارجية أكثرَ تسامُحًا ولُطفًا، وبالتبعية يُصبح الأنا الأعلى/ موضوعاته المستدمَجة أقلَّ قسوةً وصرامةً، ويُصبح تعاطي الأنا مع الواقع أقلَّ تشويهًا.
ذلك في المآل السَّوي، أما لدى العُصابي قد لا يتمكن الأنا من احتواء حفزات الهُو، أو قد نجِد فَيضًا فِطريًّا من حفزات الهُو، أو ربما نتاجًا للإحباط؛ فيَحدث التثبيتُ في المراحل القبـ/ـتناسلية، ويبقى الأنا منكوبًا تحت وطأة الأنا الأعلى الصارمِ ثقيلِ الظلِّ من جهة، وهجماتِ الهُو الوحشيةِ من جهة أُخرى.
حلقة العُصاب المفرَغة
وكما ذُكر من قبل الحلقة المفرغة من التكوين المتصاعد في قسوة الأنا الأعلى وعدوانيته، قبل أن تُخففه المرحلةُ التناسلية بسيادة الحفزات الليبيدية، فإن العُصاب -ببساطة- هو تثبيتٌ في تلك الحلقة ما قبل التناسلية، ومن ثَمَّ يدور العلاج على مُقارَبة مَفادها: (الهدف هو فتحُ كُوَّةٍ في تلك الحلقة المفرَغة، صَدْعًا يُوقِف جريانها الدفاق)،
ومنطقيًّا كلما أصبح المريض أقلَّ تخوُّفًا من أناه الأعلى/ موضوعاته المستدمَجة، سيُسقط موضوعات أقل إخافةً واضطهادًا، وستقِلُّ حاجته إلى أن يستشعر تجاهها هذا القدْرَ من العَداء، وبالتالي سيكون الموضوع المستدمَج أقلَّ وحشيةً وصرامة.
وكأننا هنا نتحدث عن حلقة أُخرى (حلقة حميدة) تنشأ على أنقاض تلك الحلقة المفرَغة الوحشية السابقة، وفي نهايتها يدلف المريضُ المرحلةَ التناسليةَ مُستكمِلًا نموَّه المجهَض، مُستبدِلًا بعُصابه سواءً/ استواءً، ومُتصِلًا أناه بواقعه بشكل أقربَ للحقيقة وأقلَّ تعرُّضًا للتشوُّه بفعلِ استحواذِ التخييل العُصابي.
وتلك الكُوَّة التي تنفتح في بُنيان العُصاب وحلقته المفرَغة إنما يُقدِّمها الموقفُ التحليلي، كيف؟
في المرحلة الأولى يمركز المريضُ كاملَ حفزات الهو على المُحلل، وفي المرحلة التالية يبدأ في قبول المُحلل بطريقةٍ أو بأُخرى كبديلٍ للأنا الأعلى خاصته، وهنا يكتمل تحوُّل المحلل إلى (الأنا الأعلى المعضِّد/ الانتقالي).
المحلل كـ (أنا أعلى معضِّد/ انتقالي)
حين يُقابِل مريضُنا العُصابي موضوعًا جديدًا في حياته الواقعية، يُسقط عليه تلك النماذج الحفرية لموضوعاته الداخلية المستدمَجة، وهكذا يفقد الموضوع جزءًا لا بأس به من واقعيته ويُصبح (موضوعًا تخييليًّا) يتَّسم بسمتِ أحد الفريقين اللذيْن يمثلان تشكيلات الموضوعات الداخلية (جيد أو سيئ)؛ ولأنه بمحض التعريف عُصابيًّا فلا غروَ تُهيمن الموضوعاتُ السيئةُ على مَشهده الداخلي مُتغوِّلةً لتقتحم المَشهد الخارجيَّ صابغةً كلَّ الموضوعات التخييلية بصبغةِ (الموضوعات السيئة).
وحتى إن تحوَّل الموضوع الواقعي إلى موضوع جيِّد، لن يمرَّ كثيرٌ من الوقت إلَّا ويستحيل موضوعًا سيئًا بحُكم العُصاب، وهكذا تصبح موضوعاتنا التخييلية -بوصفنا عُصابيين- يُكلِّلها الخطرُ والعدائية. (وتستمر الحلقة المفرغة عبر استحداث مزيدٍ من العدائية، فإسقاط، فاستدماج، فتوحُّش أكبرُ للأنا الأعلى). وكلُّ صورةِ تمثيلٍ لموضوعٍ (إيماجو) سيئٍ تُستدمَج يتضاعف معها مخزونُ الموضوعات السيئة. وكلُّ موضوعٍ يُقابله العُصابيُّ يُسقط عليه موضوعاته الجيدةَ يُسهم في تخفيف عنفِ الأنا الأعلى وصرامتِه حين يَستدمجه، فيتحسَّن عُصابُه بدرجةٍ ما، حتى وإن لم يَحدث تغييرٌ حقيقيٌّ على مستوى الأنا الأعلى، فالموضوع الجيد المستدمَج لن يكون إلَّا صورةً توأميةً إضافيةً للموضوع الجيد.
💡 يمكننا هنا أن نفهم شكلًا من السلوك القَهري في التعددية العاطفية لدى بعض الوسواسيين، حين يتنقل في العلاقات بين علاقة وأُخرى، لا يحظى من كلٍّ منها سوى بالبدايات فحسب (نستدعي قولَ محمود درويش: “لا أُريد من الحُب سوى البدايات”) حيث لا يزال الآخَر يُمثل الموضوعَ الجيد، نَستدمجه لنُخفِّف عنفَ الأنا الأعلى، كأن عرَض (التعددية العلائقية) ليس سوى استثمارٍ في حشد إيماجو جيد تلوَ الآخَر، هربًا من إثميةٍ يَرتهن فيها وجوده جرَّاء تكوينٍ شديدِ القسوة للأنا الأعلى، لحظاتٌ تسكينيةٌ مؤقتةٌ لا تلبث أن تزول، حين يبدأ الآخَر في الانصباغ بالموضوع السيئ أو ربما يُطِلُّ بواقعيته ليُبدِّد استدعاءَ الموضوع التخييلي الجيد الذي يستخدمه العُصابي/ الدونجوان للهرب من ملاحقة أناه الأعلى! نوعٌ من التداوي الذاتي، وخروجٌ مؤقتٌ عن الحلقة المفرغة، وإن كان عبْر عرَض جديد!
فكيف يختلف التحليل عن مقابلة موضوع يُسقط عليه الشخصُ موضوعَه الجيد؟ كيف لا يكون التحليلُ محضَ حالةِ بدايةِ الهوى بتحويله الإيجابي؟
إن التحليل يَخلق موقفًا مغايِرًا، ولخصوصية الموقف التحليلي وخصوصية سلوك المُحلل (أو انفصال سلوكه عن سلوك المريض، فليس تكميلًا ولا ردودَ أفعالٍ يَسحبه مريضُه فيها نحو تَكرارٍ يُؤكِّد من خلاله دورًا لا يعدو أن يكون لأحد موضوعاته)، تلك الخصوصيات تجعل استدماج (إيماجو) المحلل -هنا- منفصلةً عن الأنا الأعلى، مُنشِئة (هيئةً/ نظامًا/ انستانتيا) جديدةً يكون برعمُها الأولُ هو صورة المحلل المستدمَجة، وذلك الموضع الجديد هو (الأنا الأعلى المُعضِّد/ الانتقالي) بشرط وجود قدْرٍ كافٍ من الاتصال بالواقع لدى المريض، وتوجيه المريض حفزات الهو الخاصةَ به بأنواعها نحوَ مُحلله.
💡 لماذا نحتاج إلى مثلِ هذا القدْر من الاتصال بالواقع؟
ليتمكن المريض من استشعار الفارق بين سلوك المُحلل في موقفه التحليلي، وسلوك موضوعاته هو في العادة، مما يُضطره لإنشاء ملفٍّ جديد يَضع فيه مثلَ تلك التجربة الجديدة التي يَصعب عليه إدراجُها في تجاربه وملفاته القائمة بالفعل، ومن ثَم يضع الموضوعَ المستدمَج الجديد/ إيماجو المُحلل في موضعٍ منفصِلٍ، ربما قد نشأ من غيرِ سابِقِ مثالٍ مُنشِئًا (الأنا الأعلى المُعضِّد/ الانتقالي)، ليُحيل إليه سُلطات الأنا الأعلى ريثما يَستعد الأنا عبْر رحلةِ التحليل، ليتولَّى تلك المَهامَّ انتهاءً، بعد انسحاب المحلل بفضِّ التحويل من ذلك الموضِع.
ولكن ستراتشي يؤكد أن هذا البنيان الذي يبدو معقَّدًا إنما هو هيْكلٌ هشٌّ لا يلبث أن ينهار حين يُسقط المريضُ موضوعَه السيئ مرةً أُخرَى على المُحلل، فيدخل حيِّزَ الموضوعات السيئة ويتلاشى الأنا الأعلى المعضِّد، ويدخل الموقفُ التحليليُّ (إن صحَّت حينها تسميتُه بذلك) تحت رحى الحلقة العُصابية المفرَغة.
متى يمكن أن يحدث ذلك الانهيار؟
إذا توقَّف المريضُ عن رؤية الموقف التحليلي كموقفٍ مختلِف!
ربما إذا استطاع إخراجَ المعالج عن (خِطابه/ مقعده/ موقفه) واستجلابَه للنَّص الخفي الذي يَحكم علاقاته بموضوعاته، وانخرط المُحلل -بخطأٍ- في ذلك النَّص مؤدِّيًا الدورَ الأُحفوريَّ لموضوعات المريض!
فكيف الخلاصُ إذًا؟ وما هو المَحك الذي يحكُم (الفعل العلاجي) هنا لئلا تَفسد تلك العملية؟ إنه (التأويل التعديلي).
تلك التقعيدات النظرية (الاستثنائية، سواءٌ اتفقنا معها أو اختلفنا) يستخدمها ستراتشي ليَبني عليها فكرتَه التقنية القادمة برمتها حول (التأويل التعديلي)، والتي قد تبدو لنا بسيطةً، وربما -حينًا- تحمل تقسيمات مرحليةً غيرَ مستساغةٍ بالكامل، ما لم نستوعب ذلك البناء النظري العميق الذي قدَّم لها به.
وللحديث بقية..
[1] له كتاب بعنوان (الفعل العلاجي: دليل إلى العلاج بالتحليل النفسي) وعليه اعتمدتُ في هذه الجزئية.
[2] أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، تُوفِّي عام 2003، وهو أول أستاذ من أصول إفريقية بالجامعة، وبعد تكوينه التحليلي اهتم بدراسة التحالف العلاجي بشكل تجريبي، مطورًا أنموذج PQS أو ما سمي بمشروع بيركلي، الذي لاقى قبولًا كبيرًا وموثوقيةً مع التجريب، ليقيس من خلاله طبيعة التحالف العلاجي وتأثيراته في التنبؤ بمآل العلاج النهائي، مستخدمًا في ذلك آلاف الساعات من أشرطة فيديو حية لجلسات حقيقية ومركزًا على الطبيعة التفاعلية بين المعالج والمريض (أي قدرة كل منهما على إحداث تأثير في الآخَر، مُفضيًا إلى تأثيرات في نتائج العملية العلاجية).
[3] Psychotherapy Process Q-Set = PQS
[4] Malcolm, Janet (1988). Psychoanalysis: The Impossible Profession. London.