إن الزواج -ببساطة- صبغةٌ اجتماعيةٌ تم إضفاؤها تطوريًّا على “طبيعة التزاوج”. كنتُ أظن في البدء أن الزواج نشأ كنظام تطوري يضمن بقاء النسل، ونجاتَهم في ظروف قاسية وعنيفة لا ترحَم. ولكن مؤسسة الزواج في حدِّ ذاتها لم تمنح هذا الكائن سوى معوِّقات نمائية وتطورية، حين أنشأت مفهوم “الأُسرة”. لاحظ أن الأُسرة تشترك في الجذر اللغوي مع “الأَسر”، وهي نوعٌ من الاستعباد المركَّب؛ استعبادٌ للأبوين بالحصرية الجنسية المخالفة للطباع البشرية ابتداءً، واستعبادٌ بالتوفير والبذل مقابل ضمان المدخل الجنسي وإتاحته الدائمة “فما استمتعتُم بهِ منهُنَّ فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ”. واستعبادٌ للنشء أنفسهم تحت سطوة القانون الأبوي والسلطوي والاجتماعي، وقهر للفردية.
فكيف يمكن أن تكون مؤسسة الزواج ذات قيمة تطورية، واستبقائية تُفسِّر نشأتها إذن! على الرغم من أننا نرى الأُسرة نفسها هي سبب كثير من التعثُّر الإنساني، وهدر الطاقة النفسية، بل وإصابة الفرد نفسه بالكثير من الاضطرابات، بل ربما هي منشأ اضطراباته أو المُفاعل الذي يقوم بتفريخ وتدجين الاضطراب.
فلماذا نشأت الأُسرة إذن كنظامٍ وحيدٍ للصبغة الاجتماعية للتزاوج؟ لماذا تم تجاوز القطعان، والأُسر الكبيرة نحوَ الأُسر الصغيرة، على الرغم من أن معدل البقاء أكبر في النوع الثاني “القطيع”؟
إنني أرى أن الأُسرة هي صيغةٌ تطوريةُ أخيرة، نشأت من الصيَغ الأكثر بدائية، كالقبائل الشيوعية، والقطعان معدومة الحدود التشريعية للتزاوج. ولكن نظرًا لمحدودية الموارد، وظهور العنف البَيني في المجتمع الإنساني، فالإنسان كائن عدواني تجاه أهل نوعه كما هو عدواني تجاه باقي الأنواع، وبالتالي خطر الفَناء لم يعد خارجيًّا فقط. لذا لزم أن تكون الضرورة التطورية ملائمةً لفُرص بقاءٍ أعلى أمامَ التهديدات الخارجية من البيئة خارجَ النوع الإنساني، كما تكون ملائمةً كذلك لفرص بقاءٍ أعلى أمامَ التهديدات الداخلية من عدوان النوع الإنسانيِّ نفسِه وتناحُرِه، ممثلًا في التدافع القَبلي والصراع (البيْن قُطعاني) أو (البيْن اجتماعي) / أي بين المجتمعات وبعضها!
لذا بدأ التزاوج نفسُه والجنسُ يقوم بوظيفة بعدية هنا، وهي أن يتم تقديمه كإطارٍ جامعٍ أو كوثيقةِ تَصالُحٍ وضمانِ بقاءِ المَصالح أمامَ الاندفاع العدواني الإنساني، لذا وجدنا التزويج بين الممالك والقبائل والجماعات المتناحرة والفصائل المتناطحة على الموارد، نوعًا شائعًا للغاية ومتوارَثًا تقريبًا بين كل الثقافات والشعوب. أن يتم تزيين امرأة ما وتقديمُها لتكون مصنعًا لأطفال رَجل مرموق من قبيلة أُخرى (مناوِئة أو حليفة) مقابلَ مدفوعاتٍ بعينها (موارد أو مصالح أو ضمانات) وبالتالي يحدث نوعٌ من التقارب (نَسَب) أو الانصهار (مُصاهرة) بين القبيلتيْن، مما يضمن البقاءَ بتخفيف عوامل التهديد الداخلية (البيْن قبلية). وهو ما يُفسِّر الاستخدامَ اللغوي لبعض ألفاظ الزواج (نَسَب، ارتباط، مُصاهرة) (In laws) مما يُذكرنا بالقانون الضمني المرتبط بعملية التزويج تلك.
وهو ما يُفسِّر فكرة (قعدة الاتفاق) التي يجلس فيها رجالُ الأُسرتين الكبيرتين برموزهما الأهم، تحمل الكثيرَ من التباهي والتناوش والاستعلاء والتفاوض، لتَنتهي بمفاوضةٍ واتفاقٍ وفاتحة. وهو ما يُفسِّر المَهرَ المدفوع، والتجهيز، والولائم والذبائح، والليالي المُقامة على عتبةِ (فِعلٍ جِنسي)!
فالزواج هنا يَخدم مصلحةً تطوريةً اجتماعية، كنوع من (اللاصق) الاجتماعي بكل رمزياته.
لذا ارتبط الزواج بالأَسر، فتجد حلَّ عَقد الزواج يُسمَّى (إطلاق)/ (طلاق)/ (تسريح)!
فتلك المرأةُ تقوم بدور (المأسورة) لدى القبيلة الأُخرى كضمانةٍ للعهد! ونجِد ألفاظ (الفداء)/ (افتدَت نفسَها)/ (بائنة)/ (استحلال)!
ونجِد الأشهر الحُرُم (التي تتوقف فيها القبائل عن سفك الدماء) قبل الأديان نفسها،
ونجِد ارتباط الجذر اللغوي للحُرمات، بالحريم، وحَرمُنا المَصون،
فالمرأة (الحَرم) تقوم عبر تقديم نفسِها كقربانٍ جنسيٍّ للأُسرة الأُخرى، بدورِ كفِّ القتال (التحريم/ الحُرُم) فلا عجبَ أن تلتقط الكناية (الحَرم/ الحريم/ الحرملك)!
لذا وجدنا (الحقِي بأهلِك) كنايةً عن التطليق.
فالزواج مؤسسة بلا فائدة فردية مباشِرة، بل على العكس هي مُعطلة الفردية، والفردانية، ولكنها ذات قيمة اجتماعية ضخمة للغاية.
وهو ما يُفسِّر التراجعَ الضخم لمؤسسة الزواج، والتفككَ الملاحَظَ للبناء الأُسري مع نمو المجتمع الإنساني وخروجه من القانون القَبلي، لقوانين أُخرى تَحكم المعاملات البينية، وبالتالي تُحسِّن فُرَص البقاء، وبالتالي فقَدَ الزواج غايتَه، وبدأ يسقط ببشاعة، لأنَّ المحرك الخفيَّ لاستبقائه باتَ هشًّا.
لذا، أصبحنا نجِد معدلات الطلاق الضخمة المتزايدة، حتى كأنَّ الأصل في الزواج الفشل لا النجاح! فحتى لو استبقَى الزواجَ -كمؤسسة فاشلة فرديًّا ومُجهِضةٍ للفردانية- كثيرٌ من رمزيات الموقف البدائي الذي خلقَه أصلًا (التفاوض القَبَلي)، ولكنه فقد الزخم الذي كان يدعمه للبقاء كمؤسسة اجتماعية مهمة للبقاء الإنساني، ودخل القانونُ ليقوم بدوره.
فهل نجِد احتضارَ مؤسسة الزواج؟ وهل تكون تلك الأنماط العلائقية الجديدةُ في الغرب هي بدائلُ تُفرزها التطوريةُ المتجددةُ للمؤسسة المحتضرة؟!
وهل نمرُّ في مجتمعاتنا العربية بتفسخاتٍ شبيهةٍ (مفيدة)، وخصوصًا مع بدء انحلال الشكل القبائلي والعائلاتي في كثير من بلداننا وأنماطنا الثقافية!
ربما.