أصبحتُ أُصدِّق تمامًا في مقولة إسحاق عظيموف الرائعة: “يَظهر المُعلِّم حين يُصبح التلميذُ مُستعِدًّا”. فسبحان الله! كلُّ فترة في حياتي تُسلمني فكريًّا للتي تَليها، وفي التوقيت المناسب نفسيًّا أبدأ في تلقي المزيد من الفهم والمعرفة في مساحات بعينها، لو كانت دخلت مبكرًا للفظتُها ولم ينفتح لها قلبي وعقلي.

ولطالما رأيتُ نفسي علميًّا “زَرعًا شيطانيًّا”، يخرج بلا أُبوة، ويتطفل على الحياة التي تلفظُه؛ أُعلِّم نفسي بنفسي، شيخي كتابي (وخطئي أكثرُ من صوابي). عِصاميُّ التعرُّفِ والتعلُّم. أحيانًا لا يُقنعني المُعلِّم المتاح، وأحيانًا أرتكب حماقات كافيةً لأحوِّله إلى منافِس! لم يُزكِّني أحدٌ ولم يعتبرني أحدٌ تلميذَه النجيب. وظننتُ أن ذلك قدَري، ذئبٌ منفردٌ يَحوم وحيدًا بلا قطيع أو انتماء! يُمثل فكرُه انتماءَه، ورؤيتُه مذهبَه، واطلاعُه هو تزكيتُه. وأورثني هذا الأمرُ نوعَ عدوانيةٍ ظاهرةٍ في الجدَل والمناظرة، واحترافِ مناطحةِ مَن يُزكِّيهم الكبار. وكنتُ دومًا أنتقص (وأعترف أن ذلك دفاعٌ نفسي) أولئك الذين يتباهَون بأساتذتهم ومُعلميهم ويَستعرضون انتسابَهم لفلانٍ وفلان، ويُمنعون في ذِكر (سَنَدهم) العلمي، بمناسبة وغير مناسبة! وكنتُ أجِد لذةً في تجهيلهم، وبيانِ خوائهم كنوعِ موازَنةٍ نفسية، كنتُ أحاول -من خلال استعراضيَّتي الثقافية، ومناوشاتي الجدَلية- ترميمَ ما يراه المجتمع (الأبوي) نقصًا فيَّ، كأنني (لقيطُ عِلم وفِكر)، عبرَ هزيمة (الأبناء الشرعيين)، وأحيانًا أَمدُّ الخطَّ على استقامته نحو (تحدِّي مُعلمِيهم)! وهكذا سِرتُ طويلًا، وهكذا كان النقد الرئيسي الذي طالما كان يوجَّه لِما أطرحه، وهو نقدٌ يُشبه نقدَ المجتمع البدائي، ولكنه اتخذ شكلًا ثقافيًّا: (ابن مين ده؟)

ولا أُنكر أنني على الرغم من تصالُحي مع فكرة (الجوَّال المنفرد/ اللقيط/ اللامُنتسِب/ اللامُزكَّى) كانت تؤلمني -أحيانًا- فأسعى لالتقاط نسبةٍ ما بشخصٍ معروفٍ اجتماعيًّا (وإن كنتُ في قرارة نفسي، بنزعة استعراضية نرجسية أحيانًا، وحقيقية أحيانًا أُخرى، أرى نفسي أكثرَ منه عِلمًا وثقافةً ودراية). ولكنني أُضطر للنزول على رُكبتي لارتداء مقام التلمذة مُتكلِّفًا في ادعاءٍ واضحٍ وتكلُّفٍ ظاهر (كان يتم التقاطُه غالبًا). وكان الشخص ذاك يستشعر انتقاصي منه وتكلُّفي موافقتَه، وزيفَ تبجيلي له، ومنافقتَه.

وفي أواخر التجوال الحائر، بدأ يَظهر أصنافٌ من المعلمين، أتعثر فيهم بقدَرٍ غريب! مُعلمون حقيقيون، معلمون هم أقرب للرفقاء، تَقتنع بهم تمامًا، بل ربما تتضاءل جِوار علومهم واتساع مَلكات أرواحهم، وتواضعهم وإخباتهم، بل ربما انطفاءِ سيرتهم! آخرُهم رأيتُه عملاقًا بحقٍّ، فريدًا، استثنائيًّا، علَّامةً، ذكيًّا وموسوعيًّا، ومع ذلك هو مغمورُ الاسم، متروكٌ في مساحته الصامتة كراهبٍ في مغارته، لا يكاد يتركُها نحو الترويج، ولكنه يجلس في انتظار مَن يبحث عنه. وجدتُ هؤلاء المعلمين (وعلى رأسهم ثلاثة) في الوقت الذي بدأتُ أكتشف ألاعيبي فيما يتعلق بالتجوال المنفرد ومحاولات الانتساب الزائفة لمعلمين لم أقتنع بهم ابتداءً، ولما بدأتُ أرى كثيرًا من عَواري وعيوبي، ومساحات عُصابي الشخصي ولهاثي واضطراب منطلقاتِ القيمة في نفسي، حينها -فقط- قذفني اللهُ لعالَمهم، وأَسلمني كلٌّ منهم نحوَ الآخَر. لا أحدَ منهم يَملك تزكيتي، لئلا أسعى للتباهي بسواي، والانتسابَ لغيرِ قلمي وفكري. وفي الوقت نفسِه لم أَعد أشعر بالغربة كنَبتٍ شيطاني، أو كدخيلٍ مُقتلَعِ الجذور.

فلَه الحمدُ والمِنة.

5 تعليقات على “أنا نَبتٌ شيطانيٌّ.. صار مُتجذِّرًا!

  1. سلمى هيثم يقول:

    قلبي ذاب ، و أوشكت عالبكاء بجد .. ليه مش عارفة و لكنه لمسني جدا ! ‘)
    اعتقد ان ده اجمل جزء في الموقع .. كنت محتاجاه
    شكرا جدا .

  2. manelgharbidmfr يقول:

    جميل جدا هذا النص و التعري النفسي الأمين الذي يعكس لنا في مرآة الصدق ما نخاف أن نعترف به لأنفسنا من هشاشتنا البشرية بسوءها و جمالها أثناء البحث عن الرفيق و السند لرحلة الحياة.

  3. سارة يقول:

    قادرة أتواصل مع الكلام ده بشكل شخصي.. جزء مني يعرفه.. أنا كنت كده بشكل كبير وماعرفش غير كده أصلًا.. كان بيبقى صعب إقناعي بشئ لأني كنت متفوقة ومن أنجب الناس وبعرف أوصل لاستنتجات وأوصل النقط مع بعض بسرعة ( نعمة من عند ربنا) وفي خلو محيط عائلتي وأقراني من هذه الخصلة.. وجدت داخل نفسي اغترار بمعرفتي. نقطة تانية أن الناس كانت بتشير إليَّ بقدرتي على الحوار ( جزء منه لاقتناعي الشديد بما أقول فكان بيطلع صادق أو كما يطلق عليه passionate talk ) فماكنتش أعرف أقتنع بكلام شخص أكبر مني سنًا وحكمة بكلام مظبوط فعلًا ولكن لأن طريقته فالعرض ” سادة” ماكانتش تلاقي استحسان داخل نفسي . ومضت بينا الأيام لحد ما كبرت وفهمت
    أن هؤلاء الأشخاص عادة صادقين النصيحة وأرهقتهم الأيام فلن يتكلفوا عناء اقناع من لا يريد أن يقتنع وسيعرض الأمر بكل بساطة .. ومع فئة أخرى أعترف بأنهم يفتقدون مهارة الحديث أو الإقناع أو أن ظروفهم الحياتية لا تتوافق مع حال فِكرهم العميق، فكان يصعب على عقلي فهم التناقض ده . لكن باسترجاع اللي فات، أقدرأقول بقوة أن ناس كتير مرتاحة من وجع الدماغ وربنا أنعم عليهم من الأول بسهولة وانسيابية تقبل وجود آخرين يتعلموا منهم ويختصروا على نفسهم أشواط في الحياة.
    – بعتذر لو كان في سطو شوية على محتوى كلامك وجذبت الحديث فاتجاه آخر، لكن دي محتوى تجربتي-. 😊

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

0