من علامات “السيولة”، وواحدٌ من أشكال “العُهر التسليعي” لفعل الإبداع ودخولِ النزعة الاستهلاكيةِ للمساحة الثقافية، هي تلك الطريقةُ الرخيصةُ التي بات معمولًا بها، وهي تَركُ الكاتب نُسَخًا موقَّعةً باسمه، لمجهولين، في المكتبة أو دار النشر. لتُمثِّل مزيدًا من المسافات، ومزيدًا من الغَيبة، وإمعانًا في استخدام (خطاب السيِّد) الاستعلائي، وفقدان الصلة بين الصانِع والمُتلقِّي، وتعميقًا للاغتراب المرتبط بفعل الإبداع وتعاطيه، وتفريغًا للفعل اللطيف القديم الممثَّل في قارئٍ يُقابِل كاتبَه المُفضَّل، لقاءٌ بسيطٌ يصِل فيه المتلقي باسمه وشخصه وحضوره للمبدع في امتنانٍ متبادَل، ورُفقةٍ عابرة، فيتلاقَى اسمَي الذات المُنشئة للخطاب والذات المُستقبِلة له في لحظةٍ ما، بدلًا من تحويله لذاتٍ مُنشِئةٍ صانعةٍ وموضوعٍ مستقبِل لموضوعٍ مصنوع، ولا شيءَ أكثر! تبًّا للتسليع السخيف!
تلك اللحظة التي يُخبر فيها أحدُهم كاتبًا أنه “كاتبه المُفضَّل”، أو أنه تتبَّع كلَّ أعماله تَقصيًا وإحاطة، أو يَذكر له تأثيرات إحدى أفكاره، أو حضورَ بعض شخوصه وتجسُّدهم في حياته، تلك لحظةٌ لا تُوصَف؛ يستشعر فيها الكاتبُ أنه قد امتد، أنه قد تجاوزَ ذاتَه ليصير بضعةً من آخَر، أنه قد يحيا حياةً أُخرى في قارئه، إن غادر الكون! أن الموتَ قد انهزم لحظتَها أمامَه، تلك اللحظة من امتنان قارئٍ هي غمرةُ امتنانِ الكاتب واستشعارُه لجدوَى ما يفعل. ومن يُحدِّثكم مُستعليًا أو مُدعيًا استغناءَه عن مثلها، لهو كاذبٌ زائفُ الورع! تلك اللحظة التي يُمثل فيها الحرفُ المقذوف للوجود -في فعل الإبداع- نوعًا من التواصل والاتصال والتجذُّر. الصخب المدوي الذي التقطتْه الآذان فانتبهَت، الآهةُ المتوجِّعةُ للموجود المجانيِّ في هذا العالَم تقاطعَت مع آهةٍ موازِيةٍ مكتومةٍ نابتةٍ لدَى آخَر!
وكان من مذهبي الإنساني وطقوسي الخاصة أن أكتب لكلِّ شخصٍ إهداءً خاصًّا، أصنعه له خصيصًا في فقرةٍ طويلةٍ تخصه وحدَه، فإن لم أكن أعرفُه، كنتُ أكتب له ما أثارته في نفسي رؤيتُه؛ كيف أراه كشخصية في رواية، ما انطباعي التوهميُّ عنه، كنتُ أقف لدقائق مع كلِّ نُسخةٍ أمنح القارئَ استحقاقَه من النظر، من الحضور، والاتصال، أُحاول أن أتلمَّس قبسًا من روحه كما أخذ هو أيضًا بضعةً من نفسي حين التقطَ كتابًا لكاتبٍ مغمورٍ لا يزال يحبو في عالَم الحرف. كنتُ أستشعر نوعًا من الولاء لا يُناقض الاعتدادَ الذي يتحتم على المبدع ارتداؤه، فلم أكن أستجدي قارئًا لعملٍ لي قَط، ولم أُفرِط يومًا في الإعلان للعامة، ولكن، مَن اختار أن يستمع لتواصليةٍ مختزَنةٍ في كتابٍ لكاتبٍ لم يحظَ -بعدُ- بالرواج الضخم، هنا ينبغي أن أتوقف، لأمنحه شكرًا لائقًا للالتقاء الإنساني، دون إهانة الحرف!
سعادتك من سعادتنا …أتمنى لو تجي يوم لتونس توقع كتبك اللي الجاية… تجدني في اول الصف إن شاء الله