كانت الحشود تقف صارخةً حول مقصلته، تُنادي بإخراجه للإعدام. أتساءل: لماذا يهوَى الناسُ مشاهدة الحوادث والفضائح والمصائب، ومعرفةَ تفاصيلها؟! ربما هي بعض نوازع الجنون والسادية فينا، ربما متعةٌ ما يَحملها ألمُ الآخَرين! بل أظننا -فقط- نسعد بأننا هنا بينما ذلك يحدث للآخَرين هناك!

كان الشابُّ مُكبَّلًا بالأغلال وراءَ الباب الخشبي، يسمع صراخهم وصيحاتهم ودعواتهم بالثبور.
يَغيب للحظات، ويتذكَّر.

كان طفلًا في التاسعة، حديثَ عهدٍ بفراق منزله الأول، ومدرسته، وأصدقائه، وحبيبته؛ حبيبةٌ هوَّنت بوجودها أصواتَ القذائف وآلامَ الشظايا، كان ينظر لعينيها الملوَّنتين فينسى عرَجه ونزْفَه وكسورَه. هنا وراء الباب، وتحت القصف، اكتشفت قُدرةَ المرأة على القتل واستمتاعَها بالتعذيب، وهناك بين عينيها اكتشف قُدرة المرأةِ الشفائية! وهكذا سيظلُّ عُمرًا مُمزَّقًا في رؤيتِه للأنثى بين امرأتيْن: نِصفُ حواءَ جحيمٌ، ونِصفُها فردوسُه المفقود!

يُدوِّي صوتُ المُعالِج: ليست قدرةً شفائية، إنما محض مُخدِّرٍ لا أكثر.

فيقول الفتى: تبًا لك! أوليس التخديرُ هو التداوي الوحيدُ في الحروب والنكبات، أَم تُرانا نترك الصارخين ألمًا لئلا نمنحهم انفصالًا زائفًا عن الوجع، فنتركهم يَحترقون فيه حتى يقضيَ عليهم باسم الحقيقة، تبًّا للحقيقة!

فليكن، سنوافق رقابةَ التعافي فنُعيد الصيغة: هناك اكتشف الفتى مُخدِّرَه، تحديقةُ عينيها فيه كانت تُحِيل أرضَه المُحترقةَ بُستانًا، كانت تحديقةٌ تُظلِّلُه كحديقة! ولكن حدائق عينيها غابت مع الانتقال من منزلٍ لآخَر، انتقلت الأُسرة، ولاحقتهم الحربُ والقذائفُ والنكبات، ولكن بقِيَت الصغيرةُ هناك على الضفةِ الأُخرَى من العالَم. بقيَت الحربُ وغاب الحُب، بقِيَت الأرضُ المحترقة وفقدَ الفتى حديقتَه! لم يعُد ثمة مُخدِّر، لم يَعُد هناك سوى الألم. وتوحش الجحيم بنِصف حواءَ الأوَّل!

يتمنَّى -الآن- لو عاد للمعالِج ليُخبرَه أنه قد حلَّ اللغز أخيرًا ووصل لمعادلة التفسير الأهم: كانت الأُولى مداواةً حقيقية، وكانت كلُّ أُخرَى مُخدِّرًا زائفًا.

“سارة” كانت المداواة، والأُخريات كُنَّ أشباهًا ومُخدِّرات. كان يبحث في عينيها عن ذاته وعن سَكنه، بينما كان -فقط- يبحث في عيونهن عن عينيها!

وتوالت الأيام، وفي نهاية العام دخل الفتى مدرسته التي اعتادها لعام، ذات صباح. كعادته يأبى أن يرتدي (المريلة)؛ تبدو بغيضةً كفستانٍ بُني باهت، ناهيك عن اسمها (مريلة!)، طالما فكَّر أنهم ما أسموها هكذا إلا لأنها قطعةٌ من قماش سخيف يرتديها الأطفال السذج في رحلةِ تعليمٍ تنفغر فيها أفواههم ويتساقَط اللُّعاب (الرِّيالة) التي تمتلئ بها أثوابهم، فسُميَت (المرايل)!

شيطان اللغة الذي يَسكن رأسه يَضحك الآن كعادته!

يرتدي الفتى قميصًا وبنطالًا من الجينز، الجينز لباسه المُفضَّل، فهو قماشٌ كنفوسنا لا يَبلَى بتعدد الصدمات، حتى تمزقاته صارت موضة! تمامًا كالتعافي والخروج للنور بالندوب، الجينز هو المُعادِل القماشي لنفوس البشر!

يَلتقط الفتى (الباريه) الأبيض والمنديل الأزرق من على (حبل الغسيل) في الصباح، لم يكَد يجِفّ، لا يزالان مبتلان، لا بأس، لا أحد سيعرف على أية حال! يدخل الفتى مدرسته مرتديًا قميصه وبنطاله، وباريه أبيض مُبتَلًّا ومنديلًا أزرق أخف بللًا حول رقبته، يستشعر طاقةً غريبةً في المدرسة. لا توجَد تجمُّعات من فصله، الوجوه متجهمةٌ تنظر إليه بترقُّب، تُخبره إحداهن:

  • فيه حاجة خطيرة، اطلع لميس “دعاء” عاوزاك، بسرعة.

كطفل معتاد على الاضطراب والملاحقة، لم يكُن الأمر ليُفزعه، فسار نحو الطابق الثاني حيث توجد قاعة فصلهم “رابعة أول”. وما إن خطَت أقدامُه إلى الدرَج الفاصل بين الطابقين حتى وجد مشهدًا لن يتمكن من نسيانه ما سارت به الحياة، مشهدًا سيلاحقه في صَحوه ونومه ويتطفَّل على أعنف كوابيسه وهواجسه؛ وجد ثُلةً من الفتيات واقفات بتراتبيةِ عَزاء، كلهن فتياتُ صَفه، وكلهن بين باكيةٍ ومُطرِقة، عيونٌ حمراء وأنوفٌ مُحتقِنةٌ وكثيرٌ من المُخاط.. ونظراتٌ ملتهبةٌ متعلِّقةٌ بوصوله، لا تُطفئ لهيبَها خطوطُ الدَّمع المشتركة، وكأنها موصولةٌ بأنبوب خفيٍّ بين أعينهن!

أزاح عن وجهه تلك الابتسامةَ الملازِمة، علمَتْه النساءُ كيف يُتقن ارتداءَ الملامحِ المُلائمةِ لأنثى تتألَّم.

  • ما الأمر؟

لا أحدَ يُجيبه.

تأتي “ميس دعاء”، كانت فتاةً عشرينيةً ولكنها كانت -بالطبع- تبدو سيدةً مكتملةَ النضج بالنسبة للفتى ذي السنوات التسع، تأخذ المرأةُ الفتى من يديه وتَدخل به إحدى الغُرف القريبة. الآن بدأ التوتر يتلبَّسه، لم أكُن إلا تلميذًا مؤدَّبًا بنكهةِ مشاكَسةٍ محبوبة، فما الأمر!

تنزل المرأةُ على ركبتيْها لتحاذيه، وتضع كلتا راحتيها حول وجهه في حُنو، تتحسَّس وجهه وشَعره، تمسُّ أناملُها (الباريه) فتتساءل: كيف ابتلَّت قُبعتك هكذا؟ يبتسم الفتى ويقول: فقط التقطتُها أبكرَ من احتياجها للشمس، ستجِفُّ مع مرور اليوم، أنا معتادٌ على ذلك، ما الأمر؟ قد أخبروني أنكِ ترغبين في رؤيتي!

سألته المُعلمة بحُنوِّها الأخَّاذ: أتدري لماذا تبكي تلك الفتياتُ في الخارج؟

فأجابها: لا، لا أعرف.

تُعيد المُعلمة سؤالها: فعلًا، لا تعرف؟!

فكرَّر الفتى إجابتَه بصدقٍ متلهِّف: حقًّا لا أعرف.

ظهرت على المُعلمة آثار الخجل، وكأنها لا تدري كيف تبدأ حديثَها. فأربكته ارتباكاتُها أكثر، فمفزِعٌ أن نرى الكبار يَرتبكون! ساد الصمت للحظات، سرَت فيها رِعدةٌ في أوصال الفتى الرقيقة، أدرك أنه متورِّطٌ في شيء ما.

أنهت المُعلمةُ الصمتَ في لحظةٍ وقالت: أتدري، لا عليك، لا يُمكنني أن أفعل الأمر بنفسي، سأجعل الأستاذ إبراهيم يُخبرك ما الأمر في حصته. والآن يمكنك الذهاب.

  • أرجوكِ يا ميس، ما الأمر، لماذا تبكي هؤلاء الفتيات؟
  • قلتُ لك اذهب الآن، واسأل أستاذ إبراهيم في حصته.

خرج الفتى من الغرفة تَغمره الحَيرة، نظر لتلك العيون الباكية في الخارج، لمحَ بضعةً من لومٍ، لا يُمكنه أن يتذكر شيئًا فعلَه يكون ذا صلة ببكائهن!

وما إن نزل الفتى، حتى وجد باقي التلاميذ قد توافدوا على الفِناء، ومن بينهم كانت عيون “دينا” و”رشا”، الصديقتان اللتان كان يتأرجح في ملاطفتهما، ولكنه كان يهوى تلك السمراء الذكية بينهما. حينما كبرَ تساءل كيف لم تَشغله تلك البيضاءُ الفاتنةُ الأُخرى؟ ولكن لبراءة الطفولة حساباتُها الخاصة!

دخل إلى فصله شاردًا، ومُشتَّتًا، ومرت الدقائقُ كأنها أعوام. يجب أن ينتظر الحصة الخامسة ليتمكن من سؤال أستاذ إبراهيم. بقِيَ هناك في الانتظار، وكأنه محكومٌ بالإعدام أو بفعلٍ خسيس، يَقتله الخجلُ ولا يدري ما فعل! وما كاد المدرس يضع قدمه في الفصل حتى انطلق نحوه مُعتمدًا على مكانته عنده ومنزلته لديه كأكفأ طلابه وأكثرهم اتقادًا بالذكاء والفطنة.

  • أستاذ إبراهيم، كانت ميس دعاء أخبرتني أنك تريدني.
  • لا، اذهب الآن.
  • لا يا سيدي، أنت تريدني بخصوص تلك الباكيات في الصباح.
  • قلتُ اذهب!

قالها الأستاذُ بعصبية، فانطلق الفتى نحو مقعده، وإذ بصوت المُعلم يَرج جسده قائلًا: ولكن لا علاقةَ لك بالبنات مُطلقًا.

بقي الفتى يبحث في ذاكرته عن شيءٍ ما، عن حركة غير لائقة، عن كلمة، عن فعلٍ مُشين، فلم يجِد.

انتظر حتى تلاقى الأطفال في الفِناء، فانطلق نحو الفتاتيْن اللتيْن لم تكونا ضمن الباكيات، فسألهن:

  • ما الأمر، لماذا كن يبكين في الصباح؟ وما علاقتي بالأمر؟

ابتسمت الفتاتان في خجلٍ رقيقٍ وهما تنظران لبعضهما، كانت عيونهما تُفصح وتأبى الكلمات أن تكشف شفرةَ المخبوء:

  • أنت بجد مش عارف؟!

كاد الفتى يَنفجر وهو يَصيح: والله لا أعرف، لماذا تعاملونني جميعًا وكأنني أعرف ما حدث!

  • فقط، لا يمكننا أن نخبرك!

***

بقيَت هذه الذكرى تُطارده كثيرًا. قَبلها ببضعة أيام تذكَّر أنه كان يجلس مع بضعِ فتياتٍ من فَصله في جلسة صراحةٍ طفولية، لتسأله إحداهن:

  • مَن تُحب؟

كان الفتى يود أن يُبقي على ملاطفته للفتاتيْن الأكثر شعبيةً في المدرسة “دينا” و”رشا”، فاختار أن يُجيب بمَكر:

  • آخِر حروف اسمها هو أول الهجاء.

ثم تمر الأيام وتنزاح الطُّرق وتعود لتتقاطع، ليجِد إحداهن تدخل عليه في أحد المشافي يومًا، تحمل طفلًا يخصُّها، وهو طبيبُ استقبالٍ في المَشفى، وهنا تُخبره الفتاةُ بأمور أكثرَ إلغازًا من سابقاتها:

  • لقد سببتَ لي معاناةً عميقة! تبًّا لك!
  • أنا! لقد بحثتُ عنكِ كثيرًا.
  • لا عليك، قد تأخَّر الوقت! أردتُ فقط أن أُخبرك، أنت ملعون يا هذا! لن يمكنك أن تحظى بعلاقة محايدة، ستتعقد الأمور منك دومًا. سينفرط العِقد، ستتشابك الدواخل، ستحلُّ الربكة والاضطرابُ أينما حللْتَ.
  • أحزنني حديثُك للغاية!
  • آسفةٌ أنني ضايقتُك! شكرًا لك. سعيدةٌ أن رأيتُك.
  • وأنا أيضًا. وداعًا.
  • هل يمكنني أن أحصل على رقم هاتفك؟
  • بالطبع.
  • لا بأس، فلنُعقِّد الأمورَ قليلًا.. تبًّا لك!

تذكَّر الفتى وهو يسير نحو مقصلته، وصياحُ الحشود يعلو أكثرَ وأكثر:

  • اقتلوا المارِق!

يُتبَع

تعليق واحد على “اللعنة (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

0