عن الشخصية الحَدية

في التحليل النفسي هناك فكرةٌ تُسمَّى “التثبيت” تقول -باختصار مُخِلٍّ- إن الطفل الإنساني يمر بمراحل نموٍّ نفسيةٍ حتى يصل لبلوغه الوجداني وما يُمكن أن نُسميه: (مقاربة السواء النفسي). وحينما يحدث اضطرابٌ ما في أثناء واحدة أو أكثر من تلك المراحل نتاجًا لصدمة، أو إحباطٍ مُفرط، أو خللٍ بيئي، أو قابليةٍ نفسية، يحدث ما يُسمَّى بـ “التثبيت” في هذه المرحلة.

هذا التثبيت يتمثل في إبقاء جزء الطاقة النفسية مرتبطًا بهذه المرحلة، وبما يُميزها. كلُّ مرحلة من هذه المراحل النفسية لها طبيعتُها ومنظورها، والعدسة التي يرى الطفلُ من خلالها العالَم. كل مرحلة تُمثل عالَمًا مخصوصًا، فكأننا لا ننتقل بين مراحل في رحلتنا لفهم العالم، بل ننطلق بين عوالَم متعددة، في كل عالَم منها لنا رغباتُنا ومخاوفُنا الكبرى التي تصبغ رؤيتَنا لهذا العالم، في غيابٍ تامٍّ للموضوعية، ولذا فهي -بالنسبة لنا- عوالم كلٌّ منها يُفضي إلى الآخَر.

والتثبيت يعني أن نرتبط بأحد هذه العوالم بمَرساةٍ تَشدنا إليه كلما تَعرضنا للضغوط في العالَم التالي. فيُصبح عالَم التثبيت هو موطننا، بكل مخاوفه ورغباته وصبغته. ننتقل للمرحلة التالية/ العالَم التالي مُحمَّلين بإرثٍ نفسي يصبغ تعاطينا مع هذا العالَم الجديد بصبغة العالَم القديم (الذي نحن متجمِّدين فيه). أي أن التثبيت لا يعني بقاءَنا في هذه المرحلة/ العالم، بل انتقالنا لما يليه مع بقاء هذه المرحلة فينا وبقاءِ هذا العالَم كعدسة نرَى من خلالها كلَّ عالَمٍ تالٍ.

ولستُ هنا بصدد الخوض في تفصيلات هذه المراحل وتنويعاتها وأشكال التثبيت فيها، ولكنني كنتُ أَود الحديثَ عن (المرحلة الأولى – العالَم الأول) وكيف يُمكننا أن نرَى تأثيرات التثبيت فيها على عالَمنا وعالَم مَن حولَنا!

تُسمى المرحلة الأولى: (المرحلةَ الفمية)، وهي تتمثل في وقت الرضاعة، وقت نزول الطفل لهذا العالَم مُتعرِّضًا لصدمة انخلاعٍ عن عالَم الرحم الأول؛ مُنفصِلًا عن العالَم الدافئ الذي يأتيه فيه رِزقُه رغَدًا، تحتضه الأم لا إلى صدرها بل داخل جسدها، ابتلاعٌ يَحميه ويَفصله عن شرور العالَم وإحباطاته، يتدفّق الغذاءُ طيلةَ اليوم بلا انقطاع. ثم إذ به يمر برحلةِ معاناةٍ مُضنيةٍ يتكوَّر فيها بقناةِ الولادة الضيقة، ويتلقَّى صفعاتِ تحفيزٍ لأنفاسه و(تشفيطٍ) لمُخاط الدفء المتراكم في رئتيه، اللتين لم يكُن لديهما أيُّ دافعٍ للعمل! ليجِد نفسَه مُلقًى به في هذا العالَم، يُضطر للصراخ ليَحصل على غذائه!

وهنا يدلف للمرحلة الفمية (العالَم الفموي). قد يبدو لنا عالَمًا هانئًا للرضيع البَشري، ولكنه في الحقيقة عالَمٌ مُرعبٌ بِحق؛ استمِع لصراخ طفلٍ جائع وأنتَ ستفهم كيف يُمكن لهذا العالَم أن يكون مُرعبًا رُعبًا خُرافيًّا!

طفلٌ لا يَرى بدقة، لا يُجيد استعمال عضلاته. تخيَّل كأن كلَّ عظامك مكسورةٌ أو أنك مُصابٌ بِشلَلٍ وضعفٍ جسديٍّ في كلِّ أعصابك، فلا تتمكن من توجيه عضلةٍ واحدة، كأنك سجينٌ في جسدٍ لا يستجيب لك ولا يَخضع لإرادتك. لحم غضٌّ ضعيف، تابعٌ واتكالي تمامًا على الأُم وتوفيرِها للغذاء والحماية؛ حالةٌ من العَجز المُطلق.

يتكئ عالَمه على الرضاعة، حالةُ الاحتضان التي تُدخله فيها الأم فتمنحه الغذاء، والمُستراحَ النفسي والجسدي، حين تضمُّ جسدَه المُتشظي، وتُسكن لوعةَ الجوع الحارقة لدى كيانٍ لم يتمرن بعدُ على الاحتمال والتأجيل!

فينقسم عالَمه إلى قسمين بلا ثالث؛ الأول: حالةُ الهناء التام والإشباع مُمثَّلًا في احتضان الأم الطيبة، وشعوره بالسكون والسكينة والسكن في كنف “موضوع الحُب”، لا جوعٌ ولا ظمأٌ ولا اتساخٌ بفضلاته ولا حكةٌ ولا تركٌ ولا هجْر، حالةٌ تتمثل في ثلاثية: الآخَرُ الجَيد المُعتني، وغيابُ الألم والخوف، وهناءُ الطمأنينة والاشباع اللحظي.

والقِسم الثاني هو: حالة غياب الأم، الجوع، والرعب الممثَّل في فَقدها، صرخةُ الطفل الهلوع كأنه لم يأكل من قبلُ ولن يأكلَ مرةً أُخرى! حالةُ الإلقاء والتركِ للحظاتٍ تبدو دهرًا، حالة الرعب والفزع المطلَق حين يتظلل بعجْزه التام، حالةُ غيابِ اللغة التي تُعبِّر والنداءِ الذي يَستجلِب. هذا العالم يبدو مُوحِشًا وخطيرًا وعدائيًّا وممتلئًا بـ “الموضوعات السيئة” التي تتركه وتُهمله مثلُ هذه الأم الغائبة. حالةٌ من الفزَع التام بثلاثية: غياب الموضوع الجَيد وبقاءُ السيئ في هذا العالَم، إحساسُ الجوع والألم الجسدي، شعورُ العجْز والحرمان التام وفزع الهَجر والتَّرك.

هذا هو عالَم الرضيع (عالَم المرحلة الفموية)، مرحلةٌ إن مرَّت بسلام حظِيَ الرضيعُ بنوع من الثقة في هذا العالَم، واستطاع أن يستخدمها كمنصةٍ لاستكشاف المجهول من حوله، ليعامِل العالَم بالفضول لا بالتوجس. فقد استطاع “الآخَرُ” أن يعتني به ليَمر من هذه المرحلة المُوحشة -حين اعتمد عليه- لمرحلة أُخرى من مراحل رؤية العالَم.

أما إذا حدث العطَب والخلل، وحدث “التثبيت”، أَلقَى الطفلُ مرساتَه في هذه المرحلة، وانتقل إلى ما تبِعها حامِلًا إرثَ الحرمان والفزع والعالَم المنقسم لقسمين بلا ثالث. وصار كلُّ ضغط أو أزمة تُعيده لحالته الأولى (هذا هو التثبيت) وتجعله يرى الكون بأسره من منظور هذه المرحلة.

يتجلَّى التثبيتُ في هذه المرحلة -بتنويعاته- في أمراض الفصام، والاكتئاب، والإدمان، وكثيرًا ما نجِده أيضًا في اضطرابات الشخصية، وبالأخص: الشخصية الحَدية، والاعتمادية، والنرجسية.

إنه عالَم “الرضيع” الوجداني، يَحكم رؤية هؤلاء للعالَم الواقعي بالخارج، أشباحُ هذه الحالة تحتلنا احتلالًا يَجعلنا لا نَرى الواقعَ كما هو، بل نراه بهذه الصبغة الوجدانية، ممثَّلةً في مزيجٍ من رُعب التَّركِ من جهة، وأملِ الانصهار المثالي في الآخَر من جهة أُخرى.

إنه عالَم من السيولة التامة، لا قواعد ولا قوانين، عالَم من العجز في مقابل الخطورة والاضطهاد. العجز في مواجهة مخاوف مُضنية، واحتمالات مُفزعة بالهلاك، في غيابٍ تامٍّ للقدرة على مواجهتها. عالَم يُتهَم فيه “الآخَر” بأنه مَن تركَنا في مواجهة كلِّ هذا الهَول المُضني، وفي الوقت نفسِه نأملُ فيه ونصرخ طامحين أن يَحتضننا هذا “الآخَر” ويُخفِينا عن العالَم المُوحش ويُزيل عنَّا وطأةَ الحرمان القاسي!

لذا يَصيرُ الآخَرُ: “شريرًا” لأنه تركَنا، و”جَيدًا” لأنه الأمل. يَصير هو مُنطلَقَ الإحباط والحرمان، وفي الوقت نفسِه أملَ المُستراح وبوابةَ الفردوس! يتوجه ناحيتَه الحبُّ واللهفةُ من جهة، وكذلك العدوانُ والكراهيةُ والحقدُ من جهة أُخرى!

عالَمٌ من اللا-مرتكَز، اللا-ثبات، اللا-سَكينة، لا شيء يُمكن توقُّعه، ولا غدٌ يُمكن التنبؤ به. كلُّ شيء خارجُ سيطرتنا، وينأى عن إمكان تحكُّمنا. عالَم الانقسام التامِّ بين “الجَيد المطلَق والسيئ المطلَق”، بين “الملائكة والشياطين”. عالَم “الارتياب التام”، وفي الوقت نفسِه “الانتظار الرومانسي المرهَف”!

عالَمُ التشبث بالآخَر حدَّ الاتكالية وإرهاقَه، وفي الوقت نفسِه الثورةُ العنيفة عليه وتأويلُ كلِّ بادرةٍ منه كأذًى مُحتمَل أو هجرٍ مُرتقَب! عالَم الهياج العصبي والصراخ والخروج عن الاتزان، وجذبِ طرَف الجلباب بلهفةِ الغريق!

إنه عالَمٌ من السيولة التامة، مِن فقدان العلاقة بين الدالِّ والمدلول، وفقدانِ الحدِّ الفاصل بين الخياليِّ والواقعيّ، ذوبانِ الحاجز بين المخاوف والتحقُّق، تلاشي الفوارق بين الحُب والعدائية. إبحارٌ بلا وجهة، وغيابٌ تامٌّ في “هيولي” بلا مقصد، تَبدّدٌ للهوية، ومفارَقةٌ للآنِيّة، وتذبذبٌ تامٌّ في رؤية الذات والآخَر والعالَم!

إنه العالَم الذي يَختطف الذُّهانيَّ، وهو العالَمُ الذي يَنوح عليه الاكتئابيُّ، ولكن لا يَصفُه أحدٌ مثلما تَصِفُه الشخصية الحَدية في مواقيت الضغوط، خاصةً لحظة شُعورها بخوف الانفصال والوحدة والهجر.

إنها تشرح لك هذا العالَم بكل تفصيلاته، إنه عالَمها الذي لا نستطيع تفهُّمه، ولا يستطيع أحدٌ أن يتخيله، فيرونها مبالغةً درامية، أو يَنفرون نتيجةَ تصرفاتِ الجنون النابعة من ارتعابِ مواجهة هذا العالَم.

حالةُ السيولة التامة ممثَّلةٌ في “الفراغ” الذهني والنفسي الذي يَحتلنا لحظتها، وانقطاعِ الصلة بين الدالِّ والمدلول، فلا ثبات لأي شيء، وشعورٍ بأن الشخص مُلقًى في الفراغ بلا أرضٍ تحته ولا سماء تُظلله، ناهيك عن الفراغ الذي يحتله “فراغُ الداخل والخارج”، وانقطاع الصلة مع المُرتكَز الخارجي والداخلي، فلا وجهةٌ ولا هويةٌ ولا غدٌ سوى السيناريو المفزعِ الخطِرِ الضبابي الذي يُطلُّ بلا ملامحَ واضحة!

إنه عالَم الموت والانتحار، عالَمٌ لا أستطيع مواجهتَه، عالَم يَفتقر للدالّ، يَفتقد المعنى، ممتلئٌ بالعبث واللامعقولية!

إنه “الرضيع الوجداني” الذي يَحتلّ النفسَ في لحظتها، فيَصبغ رؤيتَها للعالَم، فالعالَم خطِرٌ وقبيحٌ ومأساويّ، والآخَرُ بَغيضٌ وشريرٌ تامُّ السوءِ مُضطهِدٌ ومُؤذٍ، كأنه قد التهم وقتَل “الآخَر الجَيدَ المثاليَّ الذي كان مُنتظَرًا” فلم يعُد موجودًا، فلا أملَ في الغد! وغالبًا ما ترى الجيدَ المثاليَّ هو خديعةُ الشرير القبيحِ الأوليةُ للأذى، مما يؤدي لاختلاط الحِداد على فقْدِ الموضوع الجَيد “الاكتئاب”، مع الارتياب والاضطهاد من الموضوع السيئ المُنسحِب المُتخلِّي “الخوف”، مع العدائية الانتقامية والرغبةِ في القصاص منه نتيجةَ تَبديده الفكرةَ الرومانسية “الغضب والحقد والغَيرة”.

وفي هذه الحالة لا يُمكن للعلاج بالتحليل النفسي أن يُقدِّم شيئًا، فالصمت الآن يَزيد من تَعمق الفراغ، وبالتالي يَزيد من حالة الفزع المُضني الذي يَكتنف عالَمَ المريض بأَسره. والتعديلات التي يتحدث عنها أهلُ التحليل النفسي -في سياق التعامل مع الشخصية الحدية- لَتؤكد لنا أن مَنحَى الصمت والتأويل لا يُمكن أن يساعد الشخصَ الذي يَرسف في عالَم “الرضيع الوجداني، والارتعاب الفموي البدائي”.

بل إن رفض بعض التوجهات التحليلية الاعترافَ بوجود الشخصية الحَدية كمرض خاصٍّ أو بِنْية متفردة -أو “لا بنية” متفردة- لربما يكون دفاعًا لا واعيًا عن فجوةٍ واضحة في النظرية والتقنية أمامَ هذه الحالة التي لا يُمكن أن تستجيب للطرائق التحليلية المعتادة. وهو -أيضًا- ما يُفسِّر لنا كيف أن العلاجات الناجعة والمُثبَتة فعَّاليتُها في اضطراب الشخصية الحَدية، على اختلاف مشاربها النظرية (العلاج السلوكي الجدلي DBT/ العلاج المَبني على الطرح TFP/ العلاج بالدعم والتعبيرsupportive expressive/ العلاج بالمخططات الذهنية schema therapy/ العلاج المرتكز على التعقل mentalization based) إنما تجمعها خصائص مشتركة، هي:

  1. مساحة تدَخُّلٍ أكبر للمُعالِج، وحضورٌ واضح للمُعالِج وللعلاقة العلاجية (حتى أن العلاج المرتكز على الطرح، والعلاج المرتكز على التعقل، إنما يدوران بأكملهما في المساحة العلائقية بين المعالِج والعميل). وهو -في رأيي- يُرمم حالةَ غياب ثبات الموضوع الأول (الأُم الغائبة) ويؤكد وجودَ المعالِج في العلاقة، مما يؤدي إلى إتمام ما تم إجهاضُه في العلاقة الأولى، ويُخفف حالةَ ارتعابِ فقدِ الموضوع، ويمنح تنفيسًا علائقيًّا للعلاقة الداخلية المضطربة بالموضوع من حيث اللهفة والعدوان معًا.
  2. كلها تقوم على (كتيبات) بخطوات واضحة، بمنهجية متدرِّجة، يعلم فيها المعالِج نحو أي شيء سينتقل في المرحلة التالية؛ للجلسة بِنيةٌ واضحةٌ وللمسار العلاجي رؤيةٌ تفصيليةٌ واضحة، حتى إن كانت مُقحمَةً -بفعل النظرية- من خارج المريض، ولكن هذا بالضبط ما يحتاج إليه كلٌّ من المريض والمعالِج في هذه اللحظة.

فهذا العالم الضبابي المرعب قد يبتلع المريض ومعالِجَه. كثيرٌ من المعالجين يتحدثون عن شعورهم بـ “التوهة” والعجز في التعامل مع الشخصيات الحَدية شديدة الاضطراب، وكأن هوة من اللا-وجهة تبتلعهم، لا يدرون أين يتوجهون أو ماذا يفعلون أو ماذا يقولون الآن. وهذه الحالة من السيولة هي عدوى دخول هذا العالَم؛ تتمكَّن تلك الشخصيات من تعبئة الأجواء بها، إنها تُذيقك قطعةً من جحيمها، جحيمِ العجز واللامركزية والسيولة والتبدد! وحين يغرق المعالِجُ في هذه الحالة، إما أن يَصِل الشعور للمريض فيزداد شعورُه بالرعب، وبالأخص أن هذه الشخصيات لديها حساسيةٌ مفرطة لإشارات الآخَر (الآخَر غارقٌ وعاجزٌ مثلي؛ إذًا لا أملَ لي). وإما أن يحاول المعالِج أن يَخرج من هذه الحالة بالانفصال، بإنقاذ نفسه، بأن يتركها تغرق وحيدةً في عالمها المخيف مُتهِمًا إياها بأنها مَن تهوى هذا وتريده، ويرتحل مُعمِّقًا شعورها بالتخلي والتَّرك والانفصال!

لذا تمنحنا هذه الأنماط العلاجية خارطةَ طريقٍ واضحةً مُفصَّلةً نعود إليها كلما أصابتنا التوهة، مما يجعل المعالِج يبدو كأنه يعرف ماذا يفعل، ويطمئن كأنه بحق يعرف إلى أين يتجه (ليست هذه هي الحقيقة، فكل هذه العلاجات لها أوجه قصور، وإنما تُوفِّر مقارباتٍ نظريةً تساعد على وضوح عالَم فموي ضبابي بدائي بلا قوانين ثابتة)، وهذا الشعور بالطمأنينة النسبية والثبات النسبي يتسلل من المعالِج إلى المريضة، فيمنحها ثباتًا نسبيًّا، مرساةً في عالَم بلا رُسُوٍّ، يصنع نقاط ارتكازٍ بين الدوالِّ ومدلولاتها، ومن ثَم وسَطًا علائقيًّا يُسهم في نمو الشعور بالهوية والاتجاه.

تتجلَّى فكرةُ الثبات أيضًا في:

  • ثبات مواعيد الجلسات وانتظامها.
  • ثبات المُعالِج واستقرار الأنا وقوتِها لديه أمام نوبات المريض واضطراباته واختلاجاته المتكررة.
  • الثبات والتجذر الذي تمنحه تمارين اليقظة والتأمل والحضور الآني من جهة، وتمنحه فكرةُ متابعة التحويل في العلاج المبني على التحويل، وتمنحه كذلك فكرة التعقل ومحاولة قراءة العالَم من وجهة نظر الآخَر في العلاج المبني على التعقل.
  • الثبات الذي يمنحه الإطار النظري للمنحَى العلاجي المستخدَم وكيف تتخلل القراءة الثنائية من المعالِج والمريض لحياة المريض وأزماته: الجدلية في العلاج الجدلي، والنظرة التحليلية وتطفُّل العلاقات بالموضوعات القديمة في العلاج المبني على الطرح، والتعاطفية والمُحايَثة في العلاج بالتعقل، وأشكال المخططات الذهنية التي تمنحه شرحًا لعالَمه الداخلي فتُزيل ضبابيته كما في العلاج بالمخططات المعرفية.

وفي نظري، أن تلك الثنائية من ثبات الموضوع بجودة الحضور العلاجي من جهة، وإضافة نقاط ارتكازٍ لثبات عالَم السيولة بالإطار النظري والمنهجي، إنما هي المحك الرئيسي للعلاج. وليست نجاعة تلك العلاجات لخصيصة نظرية فيها قدْر كونها تقوم على منح (الثبات) في عالَم فموي (مفعم بالسيولة). وبمرور الوقت تمنح وسَطًا مُغذِّيًا وتربةً خصبةً ليستكمل هذا الرضيع الوجداني نموَّه ويصنع منصته التي من خلالها يستكشف العالَم بلا ارتيابية مرتعبة تُبدل الدورَ مع مثالية مرهَفة.

وللحديث بقية.

تعليق واحد على “(الرَّضيع الذي يَحتلُّـنا)

  1. هدى طاهر يقول:

    شرح وافي وسلس للمرحلة الفمية وكيفية التثبت عليها واثرها في المستقبل على الانسان وما يتجرعه صاحبها من آلام نفسية ومشاعر مُتعِبة ، وبالفعل العلاج بالمخططات اثبت فاعلية مع حالات اضطراب الشخصية الحدية وكذلك العلاج السلوكي الجدلي . ومن وجهة نظري المتواضعة لا يوجد مدرسة علاجية تصلح للتعامل مع كل الحالات بكفاءة عالية فكل مدرسة تناولت الإنسان و دواخله من زاوية معينة فأضاءت لنا هذا الجانب الذي لم تستطيع اياً من المدارس العلاجية الاخرى تناوله ومع تعدد المدارس تعددت لنا زوايا الرؤية داخل النفس البشرية .
    منتظرة بقية المراحل مع تفسيرك لكل مرحلة من وجهة نظرك .
    لك مني جزيل الشكر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

0