نُشر من قبل في المدوَّنة السابقة بتاريخ 30 أكتوبر 2018
أحيانًا يصعب علينا أن نكتشف عيوبنا، يصعب علينا أن ننظر إلى الداخل لندرك نقائصنا، ولكن الله يريدنا أن ندركها فيجعلنا نراها أحيانًا متجسدةً لدى الآخرين، فندركها فيهم.
وفي طريق التعافي نتعلم ألَّا نَحكم على أحد، وإذا أطلعنا الله على أسرار العباد تحلَّينا بالمَحبة الرؤوفة لهم،
وإذا وجدنا عيبًا في أحدهم سارعنا بالإشارة إليه بأمانة المعتني تحت مظلة القبول والرحمة، ونتعلم أن نلتفت لحظتها داخل أنفسنا لندركه في ذواتنا، فلدينا منه لمحة ما، وإدراكنا له لدى الآخَر ليس رحمةً ربانيةً به وحده، وإنما بنا أيضًا، فتلك من وسائل تواصل الله معنا؛ لغة الله في الإشارة لعيوبنا تتمثل في أن نلاحظها لدى الآخرين، لدى من نحب، لدى من نجاور، فإذا وجدنا لدى أحدهم نمطًا سلوكيًّا غير صحي التفتنا إلى ذواتنا بالتنقيب الحُر والجرد الشجاع، لندرك مداه داخلنا.
حينها سنعرف كثيرًا من مساحات العماء التي لم نكن ندركها وانكشفت لنا بسطوع خفايا شخص آخر، سلوك الآخر هو مرآة ذواتنا. والأحمق من أدرك عيوب غيره فحكم عليهم وظن خلوَّه من مثلها فازداد انكاره، وربما انجرف في ضلاله.
تلك إحدى وسائل الخروج من الإنكار، وإحدى الهبات الربانية لإضاءة المسافات المظلمة منا واستبصار المعمي عن إدراكنا.
تنحل الغشاوة عن أبصارنا حين نرى بعض النقائص لدى الآخرين فنتهم أنفسنا أننا نحمل مثلها ونجلس لنصنع جردًا ذاتيًّا وحشدًا للدلائل ومسحًا للمواقف والسلوكيات التي نمارسها وتقترب مما لاحظناه، هذا يمنحنا أولًا نوعًا من قبول الآخر والتعاطف معه والتخلي عن الاستعلاء والنصح الأخلاقي والتوجيه الوعظي نحو المواجدة والمقاسمة الشعورية الحقيقية التي تساعدنا وتساعده في الاستشفاء. أحيانًا حين تزداد يقظتنا في تلك المساحة ونصبح على أهبة الاستعداد دومًا للتنقيب داخلنا إذا صادفنا خطأ لدى الآخر فلا نسارع بالحكم والتصيد وتتبع العورات، حينها تزيد رسائل الله لنا ويبدأ في تلقف قلوبنا ليشير لكافة مساحات عيوبنا ويساعدنا في تزكية النفس، وأول تزكية النفس معرفتها، ومن ظن أنه يعرف نفسه فهو أوهم الخَلق وأكثرهم سذاجةً، ومن ظن أنه يدرك عيوبه ونقائصه التي تعيق نموه فهو المعطل المغرور.
وخير ما يمكن أن تهبنا الحياة هو استبصار لمعايبنا وأنماط سلوكنا المعيقة للنضج والتزكية، تلك هي الطريقة الأولى (إدراك عيب لدى الآخر).
حين يمارس عيبه ذلك في مساحة ما من حياته أو نراه وهو يروي لنا ويشركنا في أمره؛ أن نشاهده يغضب، أو يحسد، أو يمارس نوعا من الازدواجية الأخلاقية فيبيح ويمنع بنسبية مرتكزة حول ذاته ومصلحته، ربما لا يتعلق الأمر بنا لكننا -بطريقة ما- نرى الحقيقة التي لا يراها، نتمنى لو استطاع تحمل رؤيتها معنا، ثم نلتفت لأنفسنا حينها نبحث عن ممارستنا الأمر نفسه:
كيف نغضب؟ متى نحسد؟ كيف مارسنا في تجربتنا -ولم نزل نمارس- نوعًا من الازدواجية الأخلاقية فنبيح ونمنع انطلاقًا من التمركز حول الذات والمصلحة والغرض!
نرى أنفسنا نحمل مساحةً من عيبه الشخصي، بل ربما حين نجرد نفوسنا بشجاعة نجد أن مساحاتنا أكثر اتساعًا من مساحته!
نتعلم القبول والتعاطف والتواضع، ونتعلم عن أنفسنا أكثر مما نتعلم عنهم، تلك الطريقة الأولى.
وأحيانًا تأتينا الرسالة بطريقة ثانية: أن يؤلمنا الآخر، أن نكون طرَفًا بطريقة ما في المعادلة لا مجرد شاهد، وإنما ضحية لهذا العيب؛ أن يتوجه تجاهنا نحن فيسبب لنا الألم والانزعاج، أن يستفز استجاباتنا وانفعالاتنا، الآن يصبح الالتفات إلى الذات صعبًا للغاية، وإدراك أننا نحمل مساحةً من العيب نفسه يصير أمرًا في غاية التعقيد، ونادرًا ما نتمكن في غمرة الانفعال أن نتيقظ لرسالة التزكية؛ نحن نتألم، نغضب، ننجرح، نشعر بالشفقة على الذات، ونشعر بالظلم أو الرفض أو الإهانة أو الخذلان، فكيف يمكننا أن نتوقف لنلاحظ التشابه بيننا وبينه في ذلك العيب!
كيف يمكننا أن نستخدم ذلك الألم وهذا الموقف كوسيلة للتزكية الذاتية ومنطلقًا لمزيد من النمو؟ تلك مساحة من التعافي بعيدة للغاية، قد يبدو الحديث عنها سهلًا بل ربما يبدو أنني وأنا أكتب عنها كأنني ألاحظها وأدركها وبالتالي أقوم بتفعيلها في حياتي، والحقيقة أن هذا نادرًا ما يحدث، بل ربما لم يحدث يومًا بحياتي بالشكل الذي أتحدث به عنه!
فأكثر ما يسبب لنا العماء ويعمق الإنكار فينا هو الألم، الغضب، الخذلان، الرفض، وغيرها من المشاعر غير المحتمَلة؛ هل تجرحني ثم تحدثني عن أن أتوقف لألتفت إلى ذاتي لحظتها وأُدرك أنني ربما أحمل عيبًا شبيهًا بذلك! بل ربما مارست هذا الأمر ذاته مع أناس آخرين، بل ربما مارسته يومًا معك فجرحتُك وسببتُ لك ألمًا وجعلتُك تتجرع الكأس ذاته الذي أذقتَني منه رشفةً اليوم؟!
تلك لحظة من اليقظة النورانية صعبة المنال!
فلحظة أن ننجرح ونصبح ضحايا لعيوب الآخرين يستمر الموقف في الدوران كأسطوانة معطوبة في أذهاننا، نجتره آلاف المرات وتتناسل “لو” الجرثومية داخلنا، ونُجري مئات الحوارات مع الجاني، وربما ننتقم منه مائة مرة، ونُمزقه ألف مرة، ونُجري له جردًا أخلاقيًّا ونُخرج كل معايبه وكل المواقف التي قمنا بتخزينها له يومًا، لكننا لا نلتفت لأنفسنا لنشاهد مدى تشابهنا معه! لا أحد يركز في نموه وتزكية ذاته لحظة الألم، لحظة لطميات المظلومية والندب الذاتي؛ أنا أنسى!
الإحباط الذي ينتابني لا يصبح مناخًا صحيًّا للتفكير بموضوعية وإجراء تنقيب ذاتي، ربما بعدما أهدأ لأرى الأمور على حقيقتها وتخفت نوبة الألم التي تُضخم حجم الأشياء.
أُدرك عيب الآخَر وأمنحه اسمًا ووصمًا، ثم أُدرك أحيانًا بعد مرور العديد من المواقف أنني أحمل مثله، حين أمسك بنفسي متلبسًا بموقف مشابه أصبح أنا فيه الجاني!
تلك الأيام نداولها!
ضحية اليوم هو جاني الغد، ومؤذي اليوم سيتجرع الكأس ذاته، حتى يقرر أحدهم أن يكسر الحلقة المفرغة ويلتفت إلى ذاته لا إلى فعل الآخَر ومعايبه، ويلبس حذاءه وربطة عنقه ويقف بموقفه ويدرك أنه ربما يحمل مساحةً شبيهةً وربما أكثر توحشًا من مثل عيبه ذلك، وأنه ربما في كون موازٍ قد تبدلت الأدوار! وأن ما يؤلمه اليوم هو أنه صار المتلقي للفعل لا مانحه، صار هو المتضرر منه لا المتكسب!
تلك المساحة من التزكية التي إن منَّ الله على أحدنا بها فقد أعظم له النعمة وتغمده بالرحمة، بل ربما لم يعد الزلل ممكنًا ولم يعد النكوص عن الطريق خيارًا، فمن التفت إلى ذاته وقت الألم وخرج عن المظلومية وعلم أنها رسالة ربانية أنه ربما يحمل العيب نفسه، فقام بالتنقيب في نفسه عن ظلم شبيه وعيب مماثل، وانخلع عن سطحية الموقف وحالة الشفقة على الذات، واستخدم هذا الموقف جناحًا للتحليق بعالم راقٍ من التزكية والنمو، فذلك من تلقف الله منه القلب وسبقت له الرحمة والفضل وتم اختياره لتمام التصفية!
الكلام سهل، والفعل في لحظة كتلك من أصعب ما يكون؛ أسأل الله أن يذكرني بذلك يومًا وراء يوم في مواقيت الألم.
هناك عبارة ملهمة في كتاب زمالة مدمني الخمر المجهولين: “إذا شعرنا بالانزعاج من شخص ما، فهناك شيء خاطئ بنا أيضًا”.
حاولت كثيرًا استيعابها، حاولت فهمها وتطبيقها، لكنها كانت تذهب مني دومًا في اتجاه غريب، كيف بمن يتألم أن يحمل خطأ ما!!
ربما في قابليته للألم، هكذا كنت أعتقد. ربما في تهويله أو تأويله لمنطلقات الفعل، ربما في شيطنته الآخَر وتبريره الغضب والجفوة، هكذا كنت أفكر واهمًا.
اليوم أحاول أن أتعامل معها بهذا المنطلق الجديد: أنا مثلك، أحمل ما تحمله.
فإذا شعرتُ أنا بالانزعاج فربما هذا أوان البحث عن منطلقات فعلك، لكن ليس داخلك وإنما داخلي، فإن أسأت الظن بي فتألمتُ فربما هذا أوان التنقيب الذاتي عن سوء الظن، لا داخلك أنت ولكن داخلي أنا؛ إلى أي مدًى أنا أُسيء الظن؟ متى مارست سوء الظن؟ مَن الأشخاص الذين جرحتهم يومًا بسوء ظني؟ كيف تألموا؟ كيف يمكنني الاعتذار؟ كيف يمكنني تعويضهم؟ كيف يمكنني أن أتيقظ لسوء الظن الذي أمارسه اليوم في حياتي؟ كيف يمكنني أن أسمح لله ليدخل حياتي ليخلصني من عيبي (سوء الظن)؟
وربما في أكثر الأحلام شططًا: كيف يمكنني أن أشكرك أنك ساعدتني على اكتشاف عيبي! وكنتَ وعاءً يحمل رسالة الله لي؟!
جنون، ها؟!
نعم، هكذا هي التزكية والنمو، فما نظنه عقلًا حاليًا هو ما أورثنا الوجع والألم والحيرة والهوس والبُعد والغربة والكآبة، والحل في الانخلاع عنه، الانخلاع عما نظنه عقلًا!
مثال آخَر: أنت حكمت عليَّ ولم تُقدِّر موقفي وفعلي ولم تر الكون من عيني، وصمتَني وخذلتَني ولم تمنحني التقدير الذي أحتاج إليه وأبحث عنه. ماذا يقول ذلك عني أولًا؟
ألا يقول إنني أستمد صورتي عني منك؟ ألَا يقول إنني أحتاج إلى موافقات خارجية لأشعر أني على المسار الصحيح؟ ألا يقول إنني أحتاج إلى استمداد قيمة فِعلي وذاتي من مرتكَز داخلي لئلا أصبح عرضةً للتقلب والتمزق بتقلب الثناء والنقد؟
ثم يأتي السؤال الأهم: هل أحمل أنا أيضًا تلك المساحة بشكل شبيه؟ هل أحكم على الآخرين وأزِنُهم بموازيني؟
هل أضع رؤيتي معيارًا لِما يمرون به؟ هل أرى نفسي المُعافَى والأخلاقي وهُم الضُّلال المَرضى؟
سأجيب: لا، لا أفعل.
إذن لماذا أسلك في الحياة كأنني أفعل، فأمارس النقد والنصح والتوجيه واللوم والتهكم والنميمة والامتعاض من سلوكهم ثم أدعي أنني رجل المرونة الأول والفتى الذهبي للقبول اللامشروط!
تُرى ما هي المرات التي مارستُ فيها الحكم على الآخرين؟ هل أشعر بالألم حين تم الحكم عليَّ؟ أتذوق الألم أكثر، أدرك طعمه، أتجرع مرارته، اليوم أعلم تمامًا كيف يتألم من يشعر بالحكم وأنه متهَم مطالَب بالإثبات والتبرئة؟
مَن هم أكثر الأشخاص الذين مارست ذلك معهم؟ كيف يمكنني أن اعتذر لهم؟ كيف يمكنني تعويضهم؟ تُرى لماذا أفعل ذلك؟ هل أحتاج بحكمي عليهم إلى أن أشعر بالتفوق؟ هل أشعر بالذنب وأنني لست على المستوى المطلوب وأحتاج إلى إثبات تفوقي لأربت على شعوري بالدونية ربتة دعم فأستخدم الحكم كنوع من المقارنة الضمنية بيني وبينهم؟ ما الذي حدث في تجربتي جعلني أحتاج إلى الدعم الذاتي بهذه الطريقة الملتوية؟
ثم ألتفت إلى الله ممتنًّا أن كشف لي عيبي، وأبحث عن استعدادي لتدخله بالمساعدة في الوعي والتخلص منه، ثم بانكسار المتواضع الذي اكتشف لتوه مساحةً من الظلام، أطلب منه النور، وأسلم إليه عيبي سائلًا أن يخلصني منه..
أتحدث كأنني أفعل، لا، أنا لا أفعل، أتمنى فقط لو أنني أفعل ذلك!
هؤلاء الناس هم إشارات في حياتنا، وتلك المواقف التي نتألم فيها هي عملات ذات وجهين، إما أن تدخلنا في طور الشفقة على الذات والغضب وتُعمق عزلتنا وشعورنا بالانفصال وهوسنا الذاتي وإنكارنا وعمانا، أو أن نراها فرصةً للتزكي والتطهر الذاتي وجرد النفس لا جرد الآخر، ووضع الذات موضع المساءلة لا وضع الآخر موضع الاتهام.
يا لها من يوتوبيا مثالية صعبة التطبيق يا رب! كيف يمكنني أن أفعلها، كيف يمكنني أن أرى يدك تزكيني في موقف يؤلمني وأدرك تمامًا أنني مظلوم به وقد جُني عليَّ فيه!
تلك المساحة من التعافي مؤلمة للغاية، كأنني أشعر أنه لا حق لي في الغضب، لا حق لي في الألم! ولكن صوت الحياة يهمس لي:
دعك من المعادلة الصفرية، أنت لست مخيرًا بين الشعور بالألم أو الالتفات للذات، تستطيع الجمع بينهما؛ تألم كما شئت، استشعر ألمك واحتوِه وانتبه له، ولكن لا تجعله يعطلك عن الالتفات الذاتي والنمو! ولا تجعل شيطان الحيرة يخيل إليك أنه لا حق لك أن تتألم، وأنه لا مبرر لك في غضب، فتلك حيلة ليشعرك باليأس من ذاتك،
وإنما تألم واغضب وانفعل وتفاعل، لكن.. لا تقف هنا، امدد قدمك خطوةً أخرى نحو الذات، التفت في غمرة الألم ولاحظ الشبه في الملامح بين ما جعلك تتألم وما تمارسه في حياتك، لترى يد الرب المعتنية والمربية وراء ملامح من آذاك، يشير إلى الموطن ذاته منك؛ ينبغي اليوم أن تلاحظه يا فتى!
وتلك هي الطريقة الثانية: أن نلاحظ عيوبنا حين نكون منخرطين ضحايا لعيوب الآخرين!
والطريقة الثالثة هي أكثرها صعوبةً في الإدراك وخفاءً على الاستبصار، وهي الإسقاط
Projection!
وهي ببساطة أن أحيانًا ما ندركه في الآخرين ليس موجودًا فيهم حقًّا إنما نحن أسقطنا عليهم ما نكرهه في أنفسنا ولا نستطيع تحمُّل وجوده فينا! تلك الملامح التي نكرهها فينا نتخلص منها ظاهريًّا بأن ننكر وجودها ثم نطرحها على الآخر وندركها فيه ونكرهها فيه، بل ننصحه بتغييرها! وهي ليست سوى ما طرحناه عليه!
نعم، إن بعض ملامحنا النفسية أكثر صعوبةً أن نقبلها، وبعض حقائقنا الذاتية أسوأ في عيوننا من أن نتعايش مع الاعتراف بوجودها فينا فنزيحها عن إدراكنا.
نعم، نصبح حقًّا لا نراها داخلنا، إننا لا نكذب ولا ندعي بل بالفعل خرجت تلك العيوب من “كادر” رؤيتنا تمامًا،
ولكن أين سنذهب بها؟ كيف نتخلص منها؟ أين يمكن أن ندفنها؟
بلا شك، داخل شخص آخر! نبحث عن شخص ما لنُلقيها عليه وندركها فيها، الآن يمكننا أن نكرهها بأريحية فلم نَعد نملكها، بل صارت مملوكةً لشخص آخر!
دعنا نبحث عن مثال ما:
هل يمكنني أن أَقبل أن أكون شخصًا حاقدًا أو حاسدًا أو مهووسًا بالتنافس وإقصاء الآخرين؟ لا يمكنني أن أقبل أن يتم نسبتي للحقد والحسد؛ لا يوجد حاسد واحد على الأرض يدرك أنه حسود! ولا يوجد من يحمل حقدًا داخله تجاه أحد ما لا يتبرأ منه ويدعي تمني الخير. لا توجد تلك الملامح الدرامية للحاسد المتقلب في فِراشه يتلظى بغيظه وحقده ومَكره، بل الحقيقة أن الحقد شعور إنساني يمكن أن يصيبنا جميعًا لكننا لا نتحمل عار الاتصاف به، فنزيحه عن إدراكنا.
البداية: أنا أحقد على فلان الذي أوتي شيئًا ما تمنيتُ أن يأتيني مثله بحياتي، شيخ مشهور ورائج ومحبوب ومتزن -مثلًا- يحمل العلم والفقه والقبول بين الناس، في الخطوة الأولى (الإنكار) أصبح في عين نفسي شخصًا مسالمًا يتمنى الخير للجميع ولا أحمل لهذا الشخص أي ضغينة، بل أُحبه وأتمنى له الخير، وربما إمعانًا في التخفي أبدأ في تكوين رد الفعل، فأبدأ في مدحه والثناء عليه ودعوة الناس لينهلوا منه!
ولكن ماذا أفعل في حقدي عليه؟ لا بأس، فلنلقِه عليه هو نفسه، فأراه يكرهني ويحقد عليَّ، على الرغم من مَحبتي إياه! وأراه يحسدني ويندهش من نجاحاتي الوهمية ومعاركي الخشبية، وأراه يحمل لي الضغينة ربما بسبب اختلافي معه في التوجه، ثم أبدأ في تصديق هذا الأمر ممعنًا في الشفقة على الذات، فما أراه هو أنني المسالم المتقبل المُحب الذي يتمنى الخير، وأنه الحاقد الماكر الشامت الذي يتربص بي النوازل والمصائب!
لكن الحقيقة التي لا يمكنني إدراكها مهما حاولت بسبب تلك الألاعيب النفسية المعقدة هي أنني الحاقد هنا، الذي تخلص من حقده بإلقائه على الآخَر، وأن الآخَر على أشد الأحوال ربما لا يكترث لأمري لتلك الدرجة التي تجعله يحمل حقدًا وكراهية وبغضاء وشماتة وانتظارًا وتربصًا!
ولكنه جنوننا نحن! نعم يا صديقي تلك هي صدمتنا، أن نكتشف أن بعض تلك العيوب التي نراها لدى الآخرين ليست لديهم أصلًا!
لا كما قلنا في الطريقة الأولى والثانية من التزكية أننا نحتاج حين نشاهدها فيهم إلى أن نرى تشابهنا معهم،
بل هنا هي ليست موجودة فيهم أصلًا إنما هو إدراكنا المعطوب!
والالتفات للذات في تلك اللحظة سيكون محبِطًا للغاية، فقد أنكرنا أصلًا لنتمكن من الطرح والإسقاط، وقمنا بتكوين رد الفعل بادعاء ذاتي لوجود العكس داخلنا، لذا فكشف ذلك العيب سيكون أصعب ما يكون حقًّا! ويحتاج إلى قفزة إيمان حقيقية تبدأ بالشك في إدراكنا (ربما لا يحمل هذا العيب، ربما المشاعر التي أظنه يحملها لي هي مشاعري أنا نحوه، التي لم أستطع تحملها). فلأسأل نفسي سؤالًا الآن: هل أحتمل وجود هذا العيب داخلي؟ هل أحتمل أن أتصف بالحقد والحسد؟ هل أسارع في الرفض والإنكار دون تفكير؟ وأنفي عن نفسي التهمة؟ لربما هذا يدل على تلك اللعبة النفسية أكثر!
نعم، كانت تلك صدمتي الأكبر بحق، أن كثيرًا مما أدركه من عيوب الآخرين لستُ فقط أحمل مثلها بل هي عيوبي أنا! وأنهم لم يكونوا سوى مرآة عاكسة أرى فيها ما كرهتُ أن أراه في خلوتي بذاتي! وتلك هي الطريقة الثالثة.
وبمجموع تلك الطرائق فهمت اليوم أنه لا شأن لي بعيوب الآخرين، وأن كل عيب أراه فيهم سواء توجَّه نحوي أو لم أكن يومًا طرفًا في معادلته، فإما أحمل مثله، أو أنه عيبي ألقيتُه عليهم.
فكل عيب أراه فيهم يعني وقتًا أحتاج إليه للعمل على ذاتي، ولا يعني صراعًا وتوجيهًا، ولا يعني نقدًا وشكوى، ولا يعني حُكمًا ونُصحًا.
لو منحني الرب تلك الطرائق الثلاث حتى تمكَّنت مني لربما حينها توقفتُ عن رؤية عيوب الآخرين، ولم أعد أشهد بالحياة سوى شفرة وأكواد لمعرفة ذاتي فقط، وللمرور نحو الحرية والسلام النفسي ولذة القرب منه والاتصال به التي لن تأتي سوى بالتطهر الحق، ولربما صار كل موقف واتصال هو إشارة واختبار وفرصة للتنقية نحو القلب السليم!
*للتأريخ:
قد أحببتُ هذا المقال للغاية، كتبته في القطار صباح الثلاثاء ٣٠ أكتوبر، ولم يكن سوى مقدمة لفكرة في دماغي لم أذكرها بَعد! ربما أذكرها في مقال مستقل عن آلية شيطنة الآخر، كنت سأكتب مقدمةً عن معرفتنا بعيوبنا لا تتعدى بضعة أسطر، وكنت أشعر قبل كتابته بالغضب والإحباط والذنب لأن عقلي يقوم اليوم بشيطنة زوجتي للغاية ويُدخلني في دوامة الشفقة الذاتية ولومها (مش مقدراني/ مش حاسة باللي بعمله وغيره من القيء الدماغي الداخلي)، كنت سأحاول فقط تفكيك حالة الشيطنة داخلي للتخلص منها فأنا أدرك أنها مجرد صوت مرَضي يسعى لكي أُصدقه، ولم أفكر لحظة الكتابة لا في طرائق ولا وسائل ولا غيره من المعاني مما ذكرت.
وما إن بدأت كتابته حتى انسابت فكرة أخرى واتضحت التقسيمات الثلاث التي لم تكن حاضرةً بتلك الهيكلة في عقلي، لذا أشعر بالامتنان على هذا الانسياب وعلى حالة الحرية الغريبة التي استشعرتها بعده، حتى صوت الشيطنة ذلك غاب وذاب بمجرد الانتهاء! يبدو أن الكتابة الأمينة تشفينا وتُحررنا حقًّا!

المقال حقيقي يعري كتير من افكارنا وأحكامنا علي الناس !
لوهلة حسيت اني بشيطن نفسي بعد ماشيطنت الاخر ف دماغي حبة حلوين 😭
انا كنت قريت قبل كدة عن الشادو بتاعنا وازاي بننكر صفات فينا ونرميها علي اخر عن اقتناع تام ، حاسة بعد قراءة المقال بأحاسيس متناقضة ( اني قاسية وجارحة وف نفس الوقت اني مستنزفة وضحية ) لنفس الاسباب في المقال شيطنة الاخر وشيطنته هو ليا والتركيز علي عيوب بعض
علي فكرة انا كل ما بغوص جوا نفسي وجوا الاخر اكتر واحاول افهم بكتشف اني بحتار اكتر
يعني لو فرضاً اننا قدرنا نتغلب علي ال ٣ طرق (برغم صعوبة او استحالة الامر ) وركزنا علي تزكية نفسنا وعيوبنا بغض النظر عن سلوك الاخر وعيوبة اللي مش عارفين هي بتاعته ولا بتاعتنا 😅
+كمان فكرة ان لو واحد اتعافي البيت بيتعافي بنسبة كويسة
احنا كدة بنلغي تصنيف العلاقات المرهقة واصبح التصنيف يا علاقة صحية يا سامة
لاننا هنا هنفضل نشتغل علي تعافينا و تزكية نفسنا بغض النظر عن الاخر (اللي مش مؤذي بشكل مباشر) دة بيتصرف ازاي هل دي علاقة ممكن الاقي فيها معني و انطلاق لامكاناتي المعطلة اللي بشتغل عليها برحلة التعافي ولا هتكون مُعطلة ليا
اية المعايير اللي من خلالها اقدر احكم علي مقدار صحة العلاقة اللي طرفيها عندهم عيوب ممكن يكونوا بيسقطوها علي بعض اغلب الوقت حتي بعد التعافي لو طرف بطل يعمل دة ؟
هو اصلا التوافق بين اتنين بيكون بحد ادني شكله اية ولا اي اتنين ينفع يتوافقوا عادي لو اشتغلوا تعافي او طرف منهم علي الاقل خصوصا لو مفيش ثقة بشكل كافي في الحدس والصوت الداخلي اللي متأثر عليه من الاخرين طول عمره لما اتمرمط دة
الحب والمشاعر والجاذبية والحاجات دي اصبحت لا يُعول عليها وحتي العقل اللي حيلتنا واللي كان فاضلنا من الشلة اللي مش موثوق فيها دي بيلعب بينا هو كمان دة غلبهم كلهم دة 😂
انا فاكرة جملة حضرتك التعافي مابيجيش بالحزق ، بس البني ادم مابيعرفش يسيب نفسه كدة خصوصا ان في قرارات مصيرية محتاجين ناخدها بدماغ حد متعافي مش مريض 😞