نُشر من قَبل في المدوَّنة بتاريخ 42 يناير 9102
لدى كلٍّ منَّا بوصلةٌ داخلية.
بوصلة غريبة تشير دومًا للاتجاه الذي ينبغي علينا سلوكه، لكننا نختار ألَّا نسلكه وأن نواصل البحث، ونقارن طريقنا بمن سوانا، ونتحسر على الطُّرق الأُخرى وعلى إمكاناتنا المعطَّلة، ونظن الطريق الذي تشير إليه بوصلتنا طريقًا مقفرًا وموحشًا ولا يحقق إمكاناتنا ولا يَحمل الرفقة الممتعة أو اللذة.
لا أدري هل نخاف أن نسلكه ونخشى أن نضطر إلى الالتزام به ومقتضياته وأن ندفع ضرائبه ونتحمل ثَمنه ومشقته أَم أن لذَّات الطُّرق الأُخرى تداعب أحلامنا!
أحيانًا أشعر أننا نواصل التوهة.. طوعًا!
نعم.. قد نخدع أنفسنا ونواصل ممارسة الإنكار وندَّعي أننا حائرون وأننا لا نعرف المعنى لحياتنا أو أننا لا ندري في أي طريق نسير، لكن الحقيقة أن منطقة ما من أنفسنا تعرف جيدًا ما علينا فعله.. لكننا نكابر!
نكابر لأننا لا نستطيع أن نتصور أن ذلك فقط هو المعنى!
نريد معنًى كبيرًا.. كبيرًا بمقاييسنا الملوَّثة بالضغوط المجتمعية وقصص الناجحين!
نريد معنًى، نعم.. لكننا نريده مقرونًا بالمتعة وربما الشهرة والرواج..
نريد القضية، نعم.. لكننا نريد الانتصار فيها لا مَحض نُصرتها..
لا نريد السير فقط.. إنما نريد ضمان الوصول!
تشير تلك المنطقة من نفوسنا إلى الطريق الذي علينا أن نتبعه ونُفني فيه أعمارنا، تلك البوصلة الخفية فينا، بوصلة الروح.. تشير إلى مشيئة الرب في حياتنا، لكننا نخشى إن سِرنا فيه ألَّا نصِل!
يحدثوننا عن أن الكنز في الرحلة نفسها، لكننا لا نستطيع أن نؤمن بذلك حق الإيمان؛ لم نزل نؤمن أن الكنز كنز.. والرحلة رحلة! نظن أن “الكنز في الرحلة” هي “تصبيرة” وعزاء ومواساة لمَن لم يصل!
نبحث عن ضمانات من مخافة التوهة وطول الطريق، ضمانات الوصول، التي تُبقينا في التوهة، توهة ما قبل الطريق؛ نخاف أن نتيه في الطريق فنقرر أن نتيه بين الطرق، نتيه في الطريق إلى الطريق!
استيقظتُ صباحًا وأنا ألهج بالدعاء للرب أن يُعرفني مشيئته وينقذني من الحيرة، فعقلي يُرهقني إرهاقًا شديدًا هذه الأيام، متأرجحًا بين أقصى الإيجاب وأقصى السلب.
أُقرر أمرًا يومًا، وبعد بضعة أيام أجد مئة سبب منطقي يدعوني لإلغائه. حيرة وتوهة وتنازع داخلي كأن الأرض تتسرب من تحت قدمي، هكذا الحيرة تجعلنا نتشكك في كل شيء حتى تلك الأمور البعيدة عن مناط حيرتنا نفسه! كأن حياتنا تتهاوى.. وبناءاتنا تتداعَى..
حالة “فقدان الاتجاه”..
البوصلة تدور وتدور، ونحن نمسك دفة سفينتنا في خِضم عاصفة ذهنية مرهِقة لا ندري أين نذهب، والبوصلة تدور، ولا يمكننا أن نرى أمان اليابسة على مرمى بصيرة مشيئتنا!
ومن الآثار المبهجة للتعافي أنه لا يزيح تلك اللحظات.. هي تستمر في العصف بنا أحيانًا، ولكن من آثاره أنه في تلك اللحظة.. يصبح لليأس بُعدٌ جماليٌّ!
“المعنى الذي يناسبنا ويلائمنا ويرضينا ويشبعنا لن نجده مهما بحثنا إلَّا حين نتجه نحو التعافي ونخوض تجربة الشفاء، وأحد أهم مكتسبات التعافي هو عودة المعنى. وربما يعود بعضنا لمعنى لم يكن يستطيع تصديقه بفعل الإساءة، ولكن التعافي قد أزاح حواجز التصديق وحجاب التلامس مع المعنى”.(من كتاب: أبي الذي أكره)
فنحن نُغلق البوصلة التائهة التي تزيد توهتنا، ونحاول إخراس أصوات أذهاننا المتضاربة، ونتخلى نحن عن الدفة، ونهرع للرب بالدعاء (أن يمسك هو بالدفة ويوجهها حيث يشاء!) أن يُعرفنا مشيئته لنا، ويساعدنا على اتباعها.
فالمعرفة وحدها لا تنفعنا، ومشيئة الله تُشير إلى الطريق الذي طالما عرفناه واخترنا تجاهله.. أو لم نختَر تجاهله ولكن ألهتنا عنه الملهيات والتجاذبات!
حينها تخرج تلك البوصلة الأُخرى الدفينة فينا، بوصلة الروح، حين تتعطل بوصلة العقل!
بوصلة الروح تشير لاتجاه واحد.. لا تنحرف ولا تتبدل.. تُصر دومًا على الوجهة نفسها: اتجاه وجودنا الحقيقي.. الوجهة التي ما إن نسلك فيها بضع خطوات حتى يغمرنا السلام..
السلام لا الراحة..
فتلك الوجهة وذلك الطريق ليس منطقة الراحة بالنسبة إلينا.. إنما مساحة السلام.
وشتان بين السلام النفسي والراحة! فليست كل منطقة مريحة تبعث على السلام، وطريق السلام قد يحمل بعض المشقة المنافية للراحة، لكنها مشقة تحت مظلة السلام، السلام يُخففها ويُجمِّل طعمها لذائقتنا!
اليوم تخرج بوصلتي ثانيةً، ويشير لي الله للاتجاه الذي حاولتُ كثيرًا ألَّا أسلكه، ولكن يبدو أنه هو فقط الاتجاه الوحيد الذي تسكن فيه نفسي.
مشيئة الله تشير لي نحو وجهة معينة، فأجد نفسي تسكن، والحيرة تزول، والتوهة تنزاح، والضجيج الدماغي الذي أرَّقني لأيامٍ.. يصمت!
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فإن بقعةً ما من نفسي ترفض.. تنادي الله: “أوليس شيئًا غير هذا؟ يمكنني أن أفعل أشياء أُخرى”..
منطقة ما من نفسي لا توافق، تخاف، تنادي الرب: “ولكن لديَّ بعض الإمكانات الأُخرى، أستطيع أن أفعل أشياء أكثر”..
يبدو هذا الطريق موحشًا للغاية، فقيرًا، لا يوجَد به كثيرٌ من السائرين، ولا يحمل الحفاوة والتصفيق والتشجيع! تمامًا كما يُخيَّل لكل واحد منا طريقه الحقيقي!
كلنا يحمل تلك البوصلة التي تشير لاتجاه معين لكننا نرفض سلوكه، ونتخيل أننا سنخسر فيه. أحيانًا تكون رحمة الله بنا أكثر عنايةً من أن تتركنا لأنفسنا، فتَحملنا نحو هذا الطريق رغم أنوفنا!
كل الطرق الأُخرى تتعثر فيها أقدامنا مع أننا نحمل مقتضياتها ومتطلباتها؛ نتعثر ونسقط ونتباطأ. كل شيء في قدَرنا يُخبرنا: لا تمشِ في هذا الاتجاه!
كأن مشيئة الله تحاول سَحبنا في الاتجاه الآخر! لكننا نواصل تحدي أقدارنا ونتشبث، ونعقلن ونبرر ونتفلسف! وحين نلتفت لطريق بوصلة الروح فينا، نجد كل شيء يسير بانسجام غريب، سرعتنا تَزيد كأننا ننهمر، وكأن الله تلقَّف قلوبنا ويسحبنا إليه! نسير بنعومة غريبة.. كل شيء يتناغم.
لكن المكاسب ليست بتلك الكثرة والوفرة، المتع ليست بتلك اللذة الفائقة والمركَّزة (المؤقتة) التي ذُقناها في الطُّرق الأُخرى.. لكنها أبقَى!
لا أدرى حتَّام نَبقى نخطو خطوات ثم نعود لنختبر السبل الأُخرى نحاول مفاوضة قدَرنا، نحاول أن نستحوذ على كل شيء، نحاول أن نجمع كل الطُّرق في طريق واحد!
ألم يأنِ لنا أن نُقرر ونلتزم؟
أن نُغلق باب التمني، ونترك الندم على المساحات الأُخرى، ونَقبل، ونرضى بمساحة من الحياة يتناغم معها وجودنا!
“الحرية الإنسانية تقتضي الاختيار، وأي اختيار ينطوي على القلق، لأنه يلتزم بأحد الخيارات وهذا يتضمن إزاحة الاختيارات الأخرى، أن تُعدِم باقي الخيارات، والمُعدِم قلِق، فنهرب من هذا القلق الوجودي بالتشتت في عدة مسارات، والمحصلة: جهد في عدد من الاتجاهات والشخص واقف في المكان نفسه!” سلسلة فهم التعافي، حلقة 45
اللهم إنا نؤمن.. لكننا لا نستطيع.. فأعِن ضَعف إيماننا!
لم تزل الأحلام تراودنا، والطمع يداعبنا ويُثقلنا ويَسحبنا، فاحملنا نحوك..
اللهم عرِّفنا مشيئتك لوجودنا، وساعدنا على اتباعها..
فالمعرفة وحدها.. لم تكفِنا يومًا!
لمسني الكلام اوي ، انا التي تخطوا عدة خطوات في كل طريق ثم تعود للصفر لتجربة طريق اخر وهكذا
كنت بحاول اقنع نفسي ان مفيش صفر و انها رحلة استكشاف وتجربة .. لسة مفيش طريق اقدر اقول عليه طريقي المُقدر ليا امشي فيه.
والضجيج الدماغي يهدأ حيناً ويُسلم لله ويصخب حيناً بشكل مؤرق.
المؤكد إن الدنيا دار كدر وان اللي فاكرين نفسنا هنرتاح فيه هو عند غيرنا بالفعل ومازال غيرنا دة مش مرتاح.