وجدتني وكثيرًا من أصدقائي نتهم أنفسنا بدنو الهمة حين نقارن أنفسنا بسادتنا ممن سبقونا من العلماء ورجالات التاريخ، دعوني أصارحكم بشيء: في مقتبل شبابي كنت مفتونًا بما يسمى “موسوعية علمائنا الأقدمين”، وكيف كان أحدهم يتقن الطب والحساب والفلك والفقه واللغة و.. و..، وكنت أعتقد دومًا أن الفارق الوحيد بيننا وبينهم هو أنهم يملكون “علو الهمة وبركة الوقت” ونحن نفتقر إليها.
ثم مر الزمان وخرجت من حالة “التخييلات المثالية” للأزمنة القديمة وأهلها، وبدأ الواقع يُجبرنا على نزع أوشحة الرفرفة الرومانسية تدريجيًّا، لنكتشف أن الصورة التي صُدِّرت لنا كانت منقوصة؛ نعم كانوا يحملون علوًّا للهمة وعقولًا مميزة لا شك، لكن عوامل أُخرى ساهمت في صناعة حالة الموسوعية.
أوَّلها هو محدودية المنتَج العلمي في وقتها أصلًا. فبعض سادتنا الموسوعيين الفضلاء كان أقصى ما كُتب في علم من العلوم التي أتقنوها لا يتعدى بضعة عشر كتابًا، وكانت العلوم تُرَد إلى مكتوبات كبرى رئيسة قد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. أمَّا الآن فمثل تلك الأعداد إنما تَصدر في شهر واحد في نقطة اختصاصية صغيرة من زاوية من مجالٍ ما ينتمي إلى علم واحد.
وثانيًا: ما الذي يتطلبه الأمر -حينها- لكي تتفرغ بضع ساعات للعلم؟ ما الذي يتطلبه الأمر لتحصيل قوت أولادك؟ وما الذي يتطلبه من وقت وجهد تحصيلُ مصاريف تعليمهم؟ ماذا عن زواجك؟ دابتك؟ بيتك؟ أثاثه؟ ما الذي يتطلبه الأمر لتنجو وتبقى على قيد حياة كريمة في مواقيتهم مقارنةً بمواقيتنا؟
مع الأسف قد أرادت بعض الخطابات تحفيزنا عن طريق إضفاء صورة مثالية ورومانسية فائقة على كل ما هو قديم، وكل من عاشوا في تلك العصور، واستخدمت للتشجيع حالةً من المقارنة المُجحفة التي لم تُدخل جميع العوامل حيز التقييم، فكانت النتيجة أن خسرت كفَّتنا بقوة، وأصابنا الإحباط والشعور بالنقص والعجز وفرط التقصير، أو التحول إلى “دون كيخوتية” حالمة تحاول استعادة مجد الفرسان النبلاء، بمصارعة طواحين الهواء!
والحقيقة أن التميز في عصورنا المتأخرة يفوق بشدة مثيله في عصورهم، والتقوى امتياز استثنائي لأهلها في أزمنتنا تَرجح كفَّتها على مَن سبقنا (قومٌ يأتون بَعدكم.. أجر الواحد منهم بسبعين منكم.. منكم.. فأنتم تجدون على الخير أعوانًا).
إننا نحتاج إلى التحرر من خطاب التوبيخ، واستلهام الخطاب النبوي الناضج الذي يحسب حساب العوامل الإضافية المؤثرة وبالتالي المحصلة النهائية للسلوك.
حينما ننظر إلى أمجاد ماضي سابقينا لا نحتاج إلى أن ننظر إليها نظرةَ المنهزم الموبِّخ ذاتَه الذي يشلُّه شعور الدونية من حيث أراد أن يمنح نفسه تحفيزًا، وتعطله تلك المقارنات المجحفة بين زمن متخيَّل بشخوص تم إضفاء سمات تخييلية فائقة عليها فأصبح واقعنا بغيضًا سقيمًا ميؤوسًا منه بالمقارنة مع عوالمهم النورانية المتخيَّلة.
أحيانًا ما نظنه تشجيعًا لأنفسنا إن لم ينطلق من مقاربة واقعية ناضجة يصبح إثقالًا وتعطيلًا لكل حراكً سيبدو هزيلًا حين يقارَن بصورة لامعة للسابقين، زاد الاجتزاء الأيدولوجي من بريقها.
والسلام
دكتور هل بإمكانك الحدبث عن تكوينك الثقافي والفكري ؟
أمي معترضة على ادعاءك لقلة الكتب والعلوم في السابق. وأنه العالم عم يفرغ نفسه ويتخلى عن بقية الأمور من زواج وغيره .
بالنسبة لي مقال جميل. أختلف في وجهة النظر معك، اتفق في نقطة أن مقارنة النفس بشيء خيالي نضفي عليه مثالية يسبب شعور بالعجز والدونية
شكر الله لك, ضبطت عندي ذلك التصور وأنا هاهنا في الثانوية 🙂
انا مش مدمنة اي حاجة من الانت بتحكي عنها بس سلسلة التعافي بالنسبالي كانت طوق نجاه من افكاري وبعض السلوكيات ممكن تساعدوني انضم لاي زمالة ف الحاله دي