وحديث رَجل الدين عن أمرٍ نفسانيٍّ متخصص -حتى إن وافق حديثُه اتجاهًا نفسانيًّا معمولًا به- هو في نظري أمرٌ غيرُ أخلاقي!
“وأقول: نفسانيّ ولا أقصد به التزكويّ”.
ما هذا الذي أقوله؟!
بل وكذلك حديث النفسانيِّ عن أمرٍ دينيٍّ حتى إن كان موافِقًا للدين واستخدامه للآية والحديث والسِّفر والإصحاح.. هو في نظري أمرٌ غيرُ أخلاقي!
والفعل الأخلاقيُّ الصائب هنا هو (الإحالة)؛ أن يتم إحالة الأمر إلى أهله وأهل اختصاصه، أو أن أكتفي بما لديَّ وأُحيل ما تبقى من المسألة وما تقاطَع مع تخصصات غيري، إليهم في مساحاتهم.
حتى لو كان حديثي موافقًا؟ نعم. لأنه يفتح الباب فيما بعدُ للمخالَفة عبر التخليط!
إن طريق كتابة الأديب أو النفساني أو باحث الإدارة في أمور الدين، وإن كان لبيان إشارات وموافقات، هو فعل غير أخلاقي أيضًا، لأنه من قَبيل التخليط.
ويفتح الباب للكتابة أو الحديث بمعايير تخصص ما ليُحاكِم بها غيرَه، حتى لو اختلفت المركزيات والمنهجيات والمرجعيات والأدوات.
فإن رجَّح المُخَلِّط الأول كفة، نقضها المخلِّط الثاني. وإن وافَق المخلِّط الأول، خالف المخلِّط الثاني. فلينغلق بابُ التخليط ابتداءً بكل ما أوتينا من إنصاف.
وهكذا حديث رجل الدين عن علوم لا يستطيع أن يملك منها سوى قشور مهما بذل الجهد، ولو على سبيل التدعيم والموافقة، يجعله في مساحات أُخرى يخالف، ويجاوزه التوفيق في تخليطه. فإن رحَّبنا بمَن وافق ووُفِّق في تخليطه فقد فتحنا البابَ لمَن خلَّط، فلا نبتئس إن حصدنا منتوجات التخليط!
المتخصص الذي يتترس بالدين مخالِفٌ أخلاقيًّا بقدْر المتخصص الذي يعاديه. فحفاوتك بالأول بقولك “الله يفتح عليك يا دكترة أو يا هندسة!” تُناقض عداوتك للثاني بقولك: “انت مين عشان تتكلم في الدين؟ التزم بتخصصك ولا تغرد خارجه”!
والاثنان سواءٌ في الخروج عن الأخلاقية والاحترافية.
وهكذا رجل الدين الذي تسأله عن علوم النفس، والعلاقات، والهندسة، والفلك ويجيبك وفي النهاية.. “إيه الثقافة العظيمة دي يا شيخنا!” لا يختلف عن رَجل الدين الذي يُلقي بما تنفغر له أفواه أهل التخصص امتعاضًا!
فالالتزام وعدم التخليط أمرٌ مطلوب على عمومه، ويمنعنا من كثير من الصراع وضياع الحقيقة ودخَن الوهم. ولا أشد ضررًا على العوامِّ إلا من التخليط المستباح، وضرر التخليط المخالِف لا يقلُّ عن ضرر استباحة التخليط الموافِق.
الدين ليس كيانًا هشًّا يستقوي برأي متخصص علموي فنحتفي به، وليس يتضرر كذلك برأي متخصص تقني يناهضه.
فإن خلط المتخصص فقد خالف وخرج عن الاحترافية، وإن خلط رجل الدين فقد تعثَّر ودعا لمثله، ولا يَحق له أن يَنهى عن الإفتاء بغير علم، وهو يخوض غيرَ فنِّه بمحض اطِّلاع عابر! ألا يكون للآخَر أن يقول أيضًا: “مَن كان مُعلمه كتابه، وإنما أنت كحاطبٍ تخصَّص بليل”!
حتى لو كان في التخليط حفاوةٌ ورواج!
فهل نقول بالفصل التام؟ بالطبع لا. فكل الأمور متشابكة، وكل مسارات الحياة لا محالةَ تتقاطع.
ولكننا نقول بمبدأين:
الأول: الاستئناس
أي أنه لا بأس أن يستأنس متخصِّص بالديني، ولا بأس أن يستأنس رجل الدين بالتخصصات إيضاحًا. ولكن.. حاكميةٌ منهجيةٌ مختلفةٌ تمامًا لعِلم أو فن أو مسار على مسار آخَر، ذلك هو التخليط، فلا يجوز لي بوصفي طبيبًا أن أقول: العادة السِّرية حلال، وإنما أقول: تقول الأروقة العلمية الطبية الموثوقة والمتعارَف عليها في العادة الخاصة كذا وكذا طبيًّا، أمَّا عن علاقة الضرر والنفع أو الطبيعية والمرض بحُكم شرعي أو قانوني أو اجتماعي فذلك يتم إحالته لرجال الدين الموثوقين وللنُّظم القانونية والاجتماعية، لكي تأخذ الرأي الطبي في الاعتبار كعامل مهم في تقديرها لا حاكِم نهائي، ولا علاقة لي -بوصفي طبيبًا- بالأمر أكثرَ من ذلك.
وهكذا يقول رجل الطب: الانتحار يَحدث نتيجة كذا وكذا، وفي حالات كذا تكون المساحة الإرادية متعلقةً بكذا وكذا وفقدان الإرادة وتسلُّط المرض يكون بالشكل كذا، وتسقط الأهلية الإرادية في الحالات كيت وكيت، وشكرًا.
أمَّا ما يترتب عن ذلك من أحكام دينية أو قانونية فلا علاقة له بها، وحديثه عنها تخليط، وسؤال السائل عنها في غير مَحله.
وهكذا الأمر لدى رجل الدين حين يتحدث عن الانتحار، فيقول عن قواعده الشرعية من حيث حفظ النفس، وكذلك يقول عن الاضطرار والضرورة وغيرها، ويتحدث عن النصوص والأدلة، ويُحيل الحديث المتعين لتقاطعه مع الطبي في مساحات المرض. أمَّا حين يخوض في تعميمٍ يجعل ممَّا عنده حُكمًا نهائيًّا فيَصِف المنتحِر بالخِسة والجبن مطلقًا، دون إحالة أو استثناء، فأظن ذلك من باب التخليط غير المحمود.
“وأعني بذلك في تلك الجزئية -فقط- شيخنا المحترم المبجَّل أنس السلطان”، فـ “التلقيح” بالنسبة لي أمرٌ غير أخلاقي، إنما يتناقش المختلفان برُقِي.
والحقيقة أنني -طبيبًا وكاتبًا- طالما وقعتُ في ذلك التخليط، حين أتترس بالخلفية الدينية، فأتحدث عن إشارات نفسانية في نصوص دينية، أو أتترس بالدين فأَخلط بين النفساني والديني والأدبي. ولا شك أن ذلك كان يمنحني رواجًا ويَصب عليَّ الحفاوة (وبيخليني مش ملاحق ع الحفاوة، فالتدين أمر يبعث على التقديس في ثقافتنا) ولكن استخدامه في غير مساحته أمرٌ غير أخلاقي.
وأحيانًا كنت أقوم بتخليط عكسي، لا يقل عبثًا وجُرمًا، حين أجعل من مبادئ علمٍ ومنهجيته حَكمًا على فتاوى أو نصوص دينية، فأنقدها وأزدريها، وأحيانًا بمخالفة الذوق والكياسة في ذلك النقد نحوَ السخرية،
وكان ذلك يستتبع هجومًا عليَّ من ناحية، وحفاوةً من ناحية أُخرى لمَن يحملون غضبهم الشخصي من الدين ورجاله. وهو أيضًا أمرٌ غير أخلاقي في نظري.
ولكن عدم أخلاقية الأمرين واحدة ومتساوية.. ومناط النزق فيهما من ناحيتي سواء، وهو (التخليط).
لذا علمتُ أن الصواب هو أن أكتفي بكوني كاتبً “أدبيًّا”، وطبيبًا، فإن خرجتُ باضطرار الحال نحوَ غير ذلك من مسارات الحياة، مما لم تُسعفني الحياةُ في التخصص فيها ولن تُسعفَني، فإنما أخرج استئناسًا، والصواب في الإحالة إلى ذوي الاختصاص.
التخليط هو آفة العصر التي نشجعها بشكل خفيٍّ عبر الاحتفاء، ما دام التخليط على هوانا موافِقًا ما لدينا، والتشنيع، إن خرجت نتيجةُ التخليط عن إطارنا المرجعي.
التخليط لغمٌ شديد الانفجار، مهما كان مرحَّبًا به لدى أُناس يبحثون عن المنقِذ الشامل والنظريةِ العمومية والحَبة السحرية، لا محالة سينفجر في وجوهنا في النهاية، مهما داعبناه وتحمل مداعبتنا لبعض الوقت!
***