يقول العلامة هاينز كوهت: إن غاية التحليل/ العلاج النفسي هو الوصول بالعميل لقِمة (الإحباط النموذجي) وتقبُّله! أن يَقبل أنه يحتاج إلى اتصالٍ أكبرَ ولا يُمكنه الحصول عليه، أن يتمنَّى تخفيفًا وتهوينًا وسُلوانًا أعظمَ، وأن يتصالح مع أنه لا يسَع أحدٌ تقديمُه. وكأننا نُعيد مُصالحتَه على الدنيا وحقيقتِها؛ أن يَجِدَ في العلاقة العلاجية النموذجَ الأمثل، وفي الوقت نفسه: الأشدَّ إحباطًا، الأكثرَ تعاطُفًا وفي الوقت ذاته: الأشدَّ واقعيةً! وكان ينصح المُحلِّلين بأن يُتقنوا كيف يتنازلون عن التعاطف أحيانًا من أجل التماسُك العقلانيِّ لأنفسهم وللعميل!
لا محالة، سيُدركُكَ العميلُ ابتداءً كالرمز المفقود لديه؛ الوالد الذي طالما أراد أن ينتميَ إليه وينصهرَ معه ويحتميَ فيه، الحكيم القوي الهادئ الطيب. وهي مرحلة (الأمثلة) أي: منح المُحلِّل صبغةً مثاليةً. ثم بَعدها ينزاح بك تدريجيًّا نحو الموضوعية البَشرية، فيُفاجَأ، ويَفجعه الأمرُ لا واعيًا. وهنا يَمر بتجربة فَقْدٍ جديدٍ للنموذج المثالي (على الرغم من أنه لا شيء تغيَّر فيكَ في الحقيقة). وهنا بداية الشفاء، حيث يبدأ في التكيُّف معك كإنسان، بَشر، يُشبهه، يَحمل نقصَه وكمالاته..
ولكن البعض -في هذه اللحظة- يَفجعه الأمرُ للحدِّ الذي يُسقط فيه نموذجًا آخَر (مُضادَّ الأُمثولة/ مناقِض المثالي) وهو نموذجٌ شيطانيٌّ بَغيضٌ منزوعُ القيمة، سيئٌ، ومراوِغ، ويتخلَّى، ويَهجر، ولا يكترث. وهنا يكون المَحكُّ الأكبر للمُعالِج هو أن يَثبُتَ حتى يَمرَّ عميلُه من هذه المرحلة، فيُعيد صَهرَ النموذجَين معًا.
ولكن بعضنا -وبالأخص مَعشر المحللين صِغار السن- نتسرَّع ونتعجَّل، ولا نكاد نحتمِل أن يَمرَّ العميلُ بتجربة (كراهيَّتِنا)، و(شَيطنتنا) و(نزْعِ قِيمتِنا)، وكأننا نشتاق للذةِ (الأمثَلَة الزائفة)، ولا نحتمل الغضبَ المخزونَ والكراهيةَ المُخبَّأة، والتي هي ديونٌ قديمة (للآخَر) في تاريخ العميل، حين تنفتح لتنصَبَّ علينا كاملةً. ولكنه يحتاج إلى أن يَمرَّ بهذا، يحتاجُ عميلُنا -كما يقول فيربيرن- إلى أن يَكرهَنا ليتماثل للشفاء، أن يُبغضنا ليَمرَّ نحوَ الالتئام وليتصالح بعضُه على بعضِه. وحين يَجِدُ العميلُ مُحلِّلَه ثابتًا مُحتفِظًا برباطة جأشه أمامَ بُغضِه ومشاعرِه السلبية والعدوانية، سيتمكن هو بَعدها من تحمُّل كراهيتِه الخفيَّةِ لذاتِه وعدوانيتِه تِجاه بعضٍ من نفسه. وحينها سيتمكن من إعادةِ رَأبِ الصَّدْع بين (المُعالِج المِثالي) و(المُعالِج السيئ)، وبالتالي بين (الآخَر الجيِّد) و(الآخَر السيئ).
وينتهي الأمرُ بأن يلتئم العميلُ على نفسِه، فيتصالح (الأنا السيئ) مع (الأنا الجيِّد)، وتتعانَق مَحبةُ الذات مع كراهية الذات في مَنتوجٍ واقعيٍّ يُسمَّى: (الذات المتماسِكة). ويتمكن العميلُ من استدماج ثَباتك مع (بُغضه وعدوانيته) ليتحلَّى بثباتٍ مُماثل أمام (بُغضه وعدوانيته)، حين يتم توجيهها ناحية نفسه في مواقيت الفشل والزلل والتأنيب.
وبالتالي، فالعلاقة العلاجية تُمثل -كما يقول (وينيكوت) وغيره- نوعًا من البيئة الحاضنة، ولكنها ليست بيئةً نموذجيةً كما نتوهَّم أو يتوهَّم عُملاؤنا، إنما هي بيئةٌ تعاطفيةٌ مُشجِّعةٌ حِينًا، وصارمةٌ في ترسيم الحدودِ ومُصالَحةِ العميل مع الإحباطِ وتأجيلِ الإشباع والتفاوضِ الواقعي مع الحياة في مُقابِل التدليل المتوقَّع. وهي كذلك بيئةٌ ثابتةٌ كأبٍ تَغلِي طفلتُه بالغضب فتلكمُه قائلةً: “أكرهك! كم أنت قبيح!” فيُقابلُها بالابتسامة الصابرة الثابتة نفسِها، مُتفهِّمًا، وهو ينتظر مرورَ نوبةِ الغضب، ومُوقِنًا أنها عمَّا قليل تَستعيد توازنَها، وتعلم أنه هو ذاتُه المَطلوبُ والمكروهُ معًا، المُعتنِي والرافضُ، مَصدرُ الإشباع ومُسبِّبُ الإحباط على حدٍّ سواء؛ فتلتئم نفسُها على نفسِها، وتلتئم كآبةُ الحياة مع بَهجتِها، وسلبيتُها مع إيجابيتِها، وتَخرجُ من رَحمِ الوهمِ والخيال نحوَ الواقعِ.. والتعافي.