هناك ثلاثة أنواع من القراءة:
قراءة تحصيلية.
قراءة تمتعية.
قراءة نورانية.
تختلف الأنواع فيما بينها، ويجب على كلٍّ منا أن يكون لديه التوازن بين الأنواع الثلاثة.
 
مواضع الاختلاف بين أنواع القراءة:
الموقف النفسي، والغاية والمقصد من فعل القراءة، وما ينبني على ذلك من وضعية الجسد والجِلسة والوقت.
 
في القراءة التحصيلية:
يكون المقصد هو العلم، استزادةً وإنتاجًا. وسنأتي على ذِكر عملية الإنتاج فيما بعد. والقراءة التحصيلية/ الإنجازية هي أكثر ما يُفيدنا في عمليات الإنتاج لاحتوائها على قِسمٍ تالٍ في العملية كما سنوضح.
ومن ثم يكون الموقف النفسي هو موقف التلميذ متَّقد الذهن المتسائل، موقف الباحث المستقصي، موقف المتتبِّع المُجمِّع والمؤلِّف الذي يربط بين المعلومات، هو موقف المذاكرة، يحتاج قدْرًا من القلق والتوتر، وقدْرًا من الكمالية، والانضباط الذاتي.
وتتأثر وضعية الجسد بذلك، فمن الأفضل أن يتم فعل القراءة هنا على مكتب أو طاولة؛ تحمل قلمك وأوراقك أو وسيلةً لتدوين الملاحظات.
تقف على كلِّ فكرة فتستوضح الغامض، وتسير وراء الإحالات تبحث عنها، وتستفيض عند النقاط التي تجِدها مهمة.
تتراوح مدة الجلسة تبعًا للحاجة، ولكن متوسطها ساعة مع التكرار.
وفائدتها أن تلك النوعية من القراءة هي التي تصنع المثقف والباحث والخبير، ولا بديل عن وجودها للطالب والمبدع والكاتب وصانع المحتوى والمضْطلع بالعمل العام.
 
أما في القراءة التمتعية فيكون المقصد تمتعيٌّ وترويحيٌّ وتخفيفيٌّ، وإرضاءٌ للشغف.
ومن ثم فالموقف النفسي هو موقف الاسترواح، والتباسط، والتخفف. لذا نجد جِلسةً مريحةً غالبًا ما نميل فيها للاتكاء أو الاضِّجاع، وربما تصحبنا الموسيقى. ويُفضَّل أن تكون تلك طبيعة جلسات القراءة ما قبل النوم. نميل لهذا النوع من القراءة مع القصص والروايات والخواطر والسيَر الذاتية وغيرها. إذ إن هدفنا هنا هو المتعة لا الاستزادة وإن كانت لا تخلو من استزادة لا محالة.
من طبيعة تلك الجلسات أن تتسم بنسيان التفاصيل فيما بعد، والإلمام بالاستلهامات العامة والخطوط العريضة. لذا هي مفيدة جدًّا لتنمية الذائقة الأدبية والفنية، ومفيدة كذلك للترويح وتخفيف الضغوط. ومفيدة في زيادة الحصيلة اللغوية نظرًا للتأثير الفني لجودة العبارة ولاتصال هذا النوع من القراءة غالبًا بالأعمال الأدبية.
ومشكلة هذا النوع من القراءة تحدث حال الاكتفاء به، أي حين يتمحور المرء حوله ويُركِّز عليه وحده.
فهو النوع الذي يصنع أشباه المثقفين، وحائري العدمية المبثوثين على صفحات التواصل، وجامعي الأقوال المأثورة ومراهقي الاطلاع.
يصنع مثقفًا، نعم، ولكنه مثقف مخوَّخ فارغ الدواخل، لا يتذكر سوى الأقاصيص وخطوط السرد الروائي. حكمته باليةٌ لكونها منفصلةً عن الواقع ومنبثقةً فقط من الحكي الخيالي. مثقف أعرج لا يتدرَّع بالعلم ولا يتترس بالمعرفة الوضعية التي تمنح لكلماته ألَقًا ولأفكاره سندًا ولرُؤاه نسَقًا ولأطروحاته تشبُّعًا من شرعية!
وهذا النوع من مثقفي الحدوتة ومتنطِّعي الأقوال المأثورة، والمتشدقين بالاقتباسات، طالما كان ضرره أكثرَ من نفعه. إذ يبدو للجهَّال -زيْفًا- مَرجعًا، ولضحلي التقييم -غلطًا- مستندًا، وهو يجلس أمام مكتبته العامرة يُنهي الرواية تلو الأخرى، والقصة وراء الثانية. فيتبعونه ظنًّا أن وراءه شيئًا فإذ به عند مجيء النوازل وعند اختبار القيَم ومعضلات الأفهام سرابًا لم يجدوه شيئًا، ووجدوا الحقيقةَ عندها فوفَّته ووفَّتهم مؤجَّلَ الحساب!
لذا نعود لنؤكد على موازنةٍ بين أنواع القراءة. فمَن ركَّز على النوع الأول احترقَ وأصابه الغمُّ والمرض، ومَن ركَّز على الثاني فحسب تسطَّح فِكرُه وافتقر إلى الشعور بالامتلاء. إنما هي موازَنةٌ بين النوعين.
 
أمَّا النوع الثالث فهو نوع غريب قلَّما يُفطَن إليه، وهو القراءة النورانية: وهي تُشكِّل نوعًا مستقلًّا يَجمع بين استزادة النوع الأول وترويحِ النوع الثاني.
وهذا النوع لا يخاطِب العقلَ قدْر مخاطبته للروح أولًا، مظللًا على الفكر والوجدان. وهو نوع من القراءة المتصلة بالتشبُّع بالقيَم، وإحداث التأثير الروحي، وتعديل التوجُّه، وضبط البوصلة نحو القيمة والمعنى، نحو التسليم وتجاوز الذات، نحو الاتصال بالمطلَق: بالله!
وتندرج تحتها القراءاتُ في الرقائق والأورادُ وقراءةُ الكتب المقدسة، وقصصُ الصالحين والرهبان، وسيَرُ الأبطال والزُّهاد، وإشاراتُ المعلِّمين والحُكماء.
وهذا النوع يرتبط بكَمٍّ أقل، ووقفاتٍ من التأمل تتخلَّله كثيرًا. لا هدف له سوى التجهُّز لحدوث التأثُّر الروحي واستعادة الاتجاه وشحن الطاقة.
كثيرًا ما نمارسه بمجاورة الطبيعة وفي مواقيت السكون، ويرتبط بالاختلاء بالذات. ولا يُفضَّل فيه أن يتحول لصبغة مفرطة من العمل البحثي، فنتحصل العلمَ ويغيب النموُّ الحقيقي والشعورُ بالاتصال.
 
وحريٌّ بكل امرئ أن يجعل بعضًا من أسبوعه لكلِّ نوعٍ منها، فيتوازن عقلًا ووجدانًا وروحًا، ويتزود معرفةً وفنًّا وقيَمًا.
والسلام.

تعليقان اثنان على “أنواع من القراءة ( التحصيلية – التمتعية – النورانية)

  1. Aya Eid يقول:

    لك جزيل الشكر يا أفضل دكتور في العالم بالنسبة لي (حتى الان) . ..شكرا على صدقك وشفافيتك الي بتدينا مساحه نعمل كدا احنا كمان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

0