نُشرت من قَبل في المدوَّنة بتاريخ 5 فبراير 2019
خُلِقنا ناجين.. ووُجدنا لننجو!
تلك قاعدة يعلمها كل مَن نحتت الإساءات شخصيته، أو ربما سيتعلمها في طريق التعافي! يمكننا أن نتكيف، لدينا مرونة استثنائية، فقد علمتنا الظروف المنكوبة التي وُجدنا بها كيف نصنع بياتنا الشتوي وكيف تتكيف خلايانا مع الصقيع القارص. نحن نجونا حين انقرض غيرُنا، وصمدنا حين بترت الحياة سوانا، لقد تشبثنا بالوجود عبر استخدام آليات بقاءٍ فريدة!
وإن كانت بعض آلياتنا مَرَضيةً للغاية وملتويةً وسقيمة، لكنها قامت بحمايتنا زمنًا طويلًا! جلودنا خشنةٌ مهما تصورنا هشاشتنا، ودروعُنا سميكة مهما تخيلنا أن الضربة القادمة سوف تقصمنا؛ فقد توالت الضربات ولم يحدث!
لقد تعلمنا أن نتعلم من كل خسارة، ونتأمل في كل خيبة ونستقي من كل خذلان. لقد تعلمنا كيف نقوم بأنفسنا ولا نتكئ بكامل حِملنا على أعمدةٍ خارجيةٍ قابلةٍ للتزحزح أو الرحيل!
لقد صمدنا في المجاعة، وتعلَّمت أجسادنا كيف تصوم، وتعلَّمت أرواحنا كيف تصبر على انقطاع المدد. لم تُدللنا الحياة لكي نفتقد تدليلها، ولم تُغدِق علينا بنعومتها لتفاجئنا خشونةُ الأرض حين تُقرر الدنيا – في نوبة تقلُّب مِزاجي منها – أن تنزع الفِراش الوثير من تحتنا!
كنا ناجين، لم نعلم غير الله رفيقًا، ولم نتخذ سوى السماء ملجأ، ولم نلتحف في غربتنا سوى بافتقارٍ وحيد للرب لا لسواه. لذا كبرنا ونحن نعلم كيف يمكن أن ننجو في الصراع، وكيف يمكن أن ننتصر في لحظات شُح الموارد، وكيف يمكن أن ننافِس ونزاحِم، وكيف نَلكم ونراوغ ونتفادَى، بل كيف نتلقى الضربات ونظلُّ واقفين متقبلين نزفَنا!
كانت الأعاصير موطننا الأصلي كأننا نملك خرائط الإبحار في الوجع.
لقد عايشنا الألم واختبرناه حتى صرنا خبراءه. وقذفتنا نفوسنا بصنوف العذابات حتى لم يعُد لدى المواجع طرائقُ تُدهشنا وتُربكنا؛ وهل يضير الشاةَ سلخُها بعد ذبحها؟ صِرنا نسير كغنمة ذبيحة تسخر من تهديدات السلخ!
“الوقت يُداهمنا!
أتدري عن تلك الأحلام التي تراودنا عن لجنة الامتحان التي انتهى وقتها قبل أن نتمكن من إنهاء المطلوب! وشعورنا في اليقظة أن هناك موعدًا حرجًا لن نتمكن من الإيفاء بالمطلوب خلاله!
شعور مقيت بأن تكَّات الساعة تلاحقنا كأن قنبلة ما على وشك الانفجار!”
من كتاب: أبي الذي أكره
ثم عرفنا التعافي، واستعدنا ذواتنا المسلوبة، ومنحَنا التعافي ربتةَ الراحة على شعورنا الدائم بالتهديد وهمسَ بآذان أرواحنا أن الخطر قد زال ولم نعُد نحتاج إلى دوام التأهُّب. توقفنا لنلتقط أنفاسنا، وتأملنا السباق والصراع فقررنا أن الأمر لا يستحق، وأن اللهاث لم يكن سوى دفاعنا النفسي، وأننا نستحق شيئًا آخَر، شيئًا أجمل، بعيدًا عن ضوضاء الصراع وصخب النزاع؛ السلام النفسي هو ما نستحقه.
ولكن الحياة لا تتركنا، والعابرون بهامشنا المتواري لا يسيرون بصمت، إنما يناوشوننا بالسخرية وادعاء عجزنا عن مناطحتهم، ويظنون توارينا عجزًا ويرون انسحابنا هربًا! يستفزنا الصراع للعودة، وتُغوينا الحياة باستدعاء دروعنا وحِرابنا. والأهم أن صوتًا من داخلنا ينادينا: “هل ننسحب الآن، بعد كل هذا؟!”
نتساءل: “ألا يمكننا أن نحصل على كل شيء؟ ألا يمكننا النجاة في السوق، وفي الصراع؟ ألسنا خُلقنا ناجين، وجُبلنا على التنافس في أوساط ندرة الموارد!”
لكننا نعلم أن الصراع يحمل مُفسدات سلامنا، وقواعد الغابة -وإن أتقناها يومًا- لم تزل تُعكر صفو تعافينا، وتدنس راحة بالنا، وإن غنائم الفوز كافةً لن تَعدل جميل التعافي، وإننا صرنا على طريق استمداد القيمة الحقيقية والمعنى الذاتي من مساحات مغايرة للاقتناء والمكانة والوفرة.
نعم.. سيبقى الصوت داخلنا يدعونا لإطلاق سراح وُحوشنا التي قامت بحمايتنا طويلًا، وفتحِ الأقفاص للضواري التي سكنتنا رِدحًا من النكبات، وقُمنا طوعًا بترويضها وإهداء سجنها قرابين للسماء طلبًا للعون على مخالفة الطبائع في التعافي!
ينبغي أن نعلم أن كل مرور بالسوق يستفزنا، كقروش تشم رائحة الدم، لم تزل وحوشنا تهوى رائحة السوق والصراع والفوز والجدل والنزال.
يمكننا ببساطة أن نُقنع أنفسنا باليأس البهي، فلا يمكن للطريقين أن يجتمعا؛ الشيطان يسكن في السوق، ولا يمكن للروح أن تحافظ على نقائها إن قررت اللعب بقواعد السوق.
نعم، يمكننا الحصول على حياة طيبة، ذلك حقُّنا المكفول، لكن لن يمكننا أن نحصل على كل شيء: السوق ومقتضياته وكذلك التعافي ومكتسباته. دعكَ من الهراء، تعرف أن ذلك وهمُنا الجمعي، محاولتنا العابثة الدائمة أن نحوز كلَّ المقاعد، مقاعد الأرض والسماء.
عابثةٌ هي محاولاتنا التسويغ والعقلنة بإمكان الجمع بين مفازات الأرض الشاسعة ومسافات السماء معًا في قبضتنا.
لا نقول إنه ينبغي ترك الأرض لنَيل السماء، ولكن أن تحصل على مساحتك الصغيرة منها راضيًا، مساحات التظلل كراكب في سَفر يَعرف صاحبُه أن المقصد ليس هنا، وأن الوسيلة لا يُمكنها إزاحة الغاية عن مقاعد الطلب.
“الفرق ما بين التَّوق والطمع: الطمع يُعميك عما معك من نِعم، وقد يدفعك إلى التنازل عنه ثمنًا لما تفتقد، الطمع مؤرِّق، تطمع إلى ما ليس بيدك فتجعل حياتك دائمًا مؤجَّلة، رغبتك دائمًا معلَّقة بما هو هناك ولا يمكنك أن تدرك ما لديك أو تتنعَّم به. لكن التوق أن تدرك ما تملك، متنعِّمًا به راضيًا وتشتاق إلى تحقيق غيره، وترغب فيما سواه مما لا يُؤثِّر فيما لديك، ولا تفقد نفسك في سبيل حيازته”.
من الحلقة الأولى من سلسلة التحرر من الماضي
مسافات الأرض مجرد (ترانزيت)، ومكتسبات السوق محض قوت كفافٍ لزاد الطريق نحو الوجهة التي لم تكن يومًا لتُرضي روحك، أن يكون جلُّ ما تصِل إليه هو عروش الوحل واللحم!
سيُوهمونك في عقلنتهم أنه يمكنك أن تجمع بين قارون وموسى، وتصهر مقتنيات قيصر مع تعاليم المسيح، وتصنع الصيغة التي لم يتمكن أحدٌ من حيازتها. سيسوقون لك أمثلةً على الإمكان، وحكايات استثناءات المعادلة، ويدغدغون شهوتك بفلسفات الملك الصالح والطمع المتقنع بأقنعة الإعمار والإصلاح.
فكُن أعلمَ بنفسك وما ينفعها، وأدرى بدواخلك، ولا تتناسَى خبرتك بأزقة الحياة أمام عباراتٍ ناعمةٍ زلِقةٍ منعزلةٍ خاويةٍ من الخوض الحقيقي في الواقع.
فلسفة السوق لا يمكنها قَط أن تجتمع مع فلسفة التعافي، كلُّ مَن سعى للسوق خسِر نفسَه، أو بضعةً من روحه لا محالة. وكل مَن سعى لنفسه لهث وراءه السوق وإن طال أمد الإغفال.
وأسوأ سبب لأن تفعل شيئًا ما، هو أنك فقط تستطيع أن تفعله! أو أن تحاول إثبات أنك تستطيع أن تفعله!
كُن في الدنيا كأنك غريب، فهكذا أنت حقًّا!
أو عابر سبيل لا مُقيم..
ومَن كان يَقصر الصلاة في السفر، فقصر المعايش أولَى!