نُشر من قَبل في المدوَّنة السابقة بتاريخ 26 يناير 2019
هل يمكننا أن نعترف أننا نحمل بعض الجنون حقًّا؟!
لا نتحدث هنا عن ذلك النوع من الجنون الذي نَحتفي به، ونقصد به الشغف والمشاغبة ونوبات التحرر من القيود! إنما أقصد الجنون البغيض، الجنون المخيف، الجنون الذي نكرهه، الجنون الذي نُدركه في الآخَرين ولا نتمكن من إدراكه في أنفسنا. فطبيعة الجنون وخاصيته هي غياب القدرة على الاستبصار الذاتي!
هل رأيتَ أحدهم يومًا في نوبة دراما هستيرية؟ هل شاهدتَ شخصًا يحيا دورَ الضحية بشكل مبالَغ فيه يدعو للاستنكار، وهو يحاول إقناعك أن الكون متآمر عليه وأن الناس أوغاد دائمو الخذلان؟ هل قابلتَ يومًا شخصًا ما يتغنى بإنجازات وإمكانات أكثر كثيرًا من حقيقته، فيُحدثك عن مواهبه وقدراته وحقد الآخَرين عليه؟
نتمكن من إدراك تلك الأمور في الآخَرين، نبتلعها وقد نُجاريهم ونُسايرهم (ناخدهم على قد عقلهم)، ولكن هل تساءلنا عن مساحات الجنون الذي نحملها نحن؟
هل يمكنك أن تبحث داخلك؟ لا، لا يمكنك! لأننا قلنا إن كل مساحات الجنون منا في “منطقة العماء”، منطقة من انعدام الرؤية. فكما أن الأسنان لا يمكنها أن تمضغ نفسها، ولا يمكن للسان أن يتذوق طعم نفسه، ولا يمكن للعين أن ترى ذاتها؛ لا يمكن للجنون أن يُدرك ذاتَه، لأنه يحتاج عقلًا فوقيًّا ومعيارًا يَقيس عليه نمط تفكيره. ولو كان يحمل معيارًا فوقيًّا لما تمكن جنونه من الوجود! إدراك الجنون لنفسه فكرةٌ متناقضة، وتناقضها يؤكد استحالتها.
لذا ينبغي أن نعترف أننا إن كنا نحمل جنوننا الخاص فلا يمكننا أن ندركه أو نلحظه أو نراه! بل لا يمكننا أصلًا أن نشك لحظةً في أننا عاقلون ومنطقيون، وكل أفكارنا ومنطلقاتنا تحمل وجاهةً ومرتكزًا واقعيًّا! أي أن القاعدة المرعبة، ببساطة: لا يمكنك أن تُدرك جنونك، ولا يمكنك أصلًا أن تشعر أو تشكَّ أو تؤكد أو تنفي أنك ربما تحمل مساحةً منه. لا يمكنك أن تعرف إن كنتَ مُصابًا ببعض منه، ولا يمكنك -إن شككتَ في ذلك- أن تعرف أي مساحة تلك، وكيف تظهر.
لذا فكما اتفقنا: لا يمكنك أن تُدرك، لأنك تحتاج معيارًا خارجيًّا. ولا يمكنك أنت أن تكون معيار نفسك، وتلك هي المعضلة، والحل أيضًا! فليس من سبيلٍ لإدراك مساحات الجنون إلا التسليم لمعيار خارج ذاتك. نعم، نعود للنقطة نفسها: الآخَر! شخصٌ آخَر غيرُك (مرةً أُخرى!) هو وحدَه المَخرج.
ولكن الصعوبة أن من طبيعة الجنون أنه يُدافع عن وجوده بالعقلنة والمقدمات والنتائج، ويُقنعك بأن الآخَر لا يَفهم ولا يُدرِك الصورةَ الكُبرَى، وأن القاعدة لا تَنطبق هنا، وأن الاقتراح الذي ساقه إليك لا يمكن أن يُجدي معك!
فمساحات الجنون تحمل خصيصةً أُخرى وهي اليقين والانغلاق الذهني: الدوجما! الشعور اليقيني بأنك على صواب.
وهنا يحمل الحل منعطَفًا حرِجًا: هل يمكنك أن تخرج خارج دماغك وقناعاتك وتُجازف بتصديق الآخَر واتباع الاقتراح وموافقة الرؤية، على الرغم من كل تلك الأدلة التي تسوقها لك دماغك وتؤكِّد لك صوابك الذاتي؟ أن تفعل شيئًا آخَر غيرَ ما تعتقده الصواب، وتسير وراء فكرة الآخَر التي تخالف تمامًا كلَّ منتوجات عقلك المنطقي والتحليلي؟
هنا تدخل فكرةُ التفتُّح الذهني، نحن نظن أن التفتح معناه المرونة والسماح بالمناقشة والاقتناع، وليس هذا تفتحًا مطلقًا، فكل الناس بإمكانهم اتباع فكرةٍ قد تم إقناعهم بها، ولكن ليس كلهم بإمكانهم المجازفة بالتشكيك في صوت أدمغتهم واتباع فكرةٍ وتصورٍ لا يُقنعهم، وإنما فقط لأنهم وضعوا احتماليةَ خطئهم المركَّب، ووجودِ إنكارٍ أو غيابٍ للوعي والقدرةِ على استشفاف وجود الخطأ في نُظُم تفكيرهم أو معتقدهم.
تلك حقيقة التفتح الذهني، وذلك بالضبط ما ينبغي على كل منا أن يمارسه، أن تكون لديه دائرةُ ثِقةٍ، يجعلهم معيارًا فوقيًّا لاستكشاف مناطق العماء من نفسه، والمجازفة بتصديقهم، واتباع رؤاهم!
يا لها من تجربة ليست سهلةً على الإطلاق!
ولكن لن نختم دون بيان ما هو الجنون وما تعريفه وحقيقته؛ الجنون هو الانفصال جزئيًّا عن الواقع، هو تشويه الحقيقة بإدراكٍ مغايِر، بزيادةٍ أو نقص أو تحريفٍ للمدرَكات عمَّا هي في ذاتها. كلنا يحمل منه شيئًا: الوهم الذي نُصدقه، الوقائع التي نُحرفها لتخدم غرضًا نفسيًّا داخلنا، الأشياء التي صدَّقناها ليس لكونها صادقة ولكن لأننا أردنا ذلك، والأشياء التي كذَّبناها ليس لكونها مخالفةً للحقيقة ولكن لأننا لم نستطع تحمُّل حقيقتها.
كل اضطراب يحمل بضعةً من جنون، من تشويهٍ للواقع، ومخالفةِ الإدراك للحقيقة:
الاكتئاب، وأفكار الذنب وكارثية المستقبل والغربة السرطانية داخلنا.
الإدمان، وأفكارُ جمالية “الضرب” وذاكرةُ الانتكاس البراقة ووهم الحلول السريعة.
الاعتمادية، وأفكار الفَناء في الوحدة والاحتياج للمنقذ وطوق النجاة الخارجي.
القلق، وأفكار الكارثة المرتقَبة أو العقوبة الإلهية أو سوء الحظ، أو احتمالية الخلل ووجوب وجود منغصٍ في كل شيء جميل يحدث لنا.
الوسواس، وأفكار وجوب التحكم في كل شيء، والخطر غير المرئي، وكل نقص يُعَد دنسًا فلا ينبغي السماح بغير الكمال.
كل وهمٍ سمَّيناه حبًّا، وكل تعلُّق إدماني سمَّيناه شوقًا، وكل عرَض انسحابي سمَّيناه حنينًا، وكل خوف من الحميمية سمَّيناه اكتفاءً ذاتيًّا، وكل طمع سمَّيناه طموحًا، وكل سخط سمَّيناه تطلُّعًا، وكل شيطنةٍ للآخَر سمَّيناها خذلانًا، وكل حُكم على الآخَر سمَّيناه نُصحًا، وكل إرضائية سمَّيناها إيثارًا، وكل انبطاح سمَّيناه عطاءً، وكل كذب سمَّيناه مجاملةً، وكل مراوغة سمَّيناها ذكاءً، وكل تمحور حول الذات سمَّيناه ثقةً بالنفس!
ومن الجنون أيضًا أن نمارس الأنماط نفسها متوقعين نتائج مختلفة! أن نستمر في تخوين الناس وظنِّ الخذلان، ثم نتوقع البقاء الأبدي والعلاقةَ المثالية والشريك الفائق! أن نستمر في ارتشاف بدايات الهوى ونتوقع شيئًا آخَر غير الخيبة والإحباط بالنهايات! أن نستمر في ملاحظة الناس ونظراتهم واستمداد صورتنا من ثنائهم وحفاوتهم ثم نتوقع الثقة والسكينة والرضا!
من الجنون أن نتوقع نتائج صِحية لمُقدمات معطوبة، هو ذلك الذي نمارسه كل يوم!
السوية مجازَفة كُبرى، والصحة النفسية تقوم على إيمان بالغيب، ولكنه ليس غيب الرب والملائكة، إنما غيب عقولنا، مناطق العماء فينا، مساحات الجنون التي لا نعرفها ولا نملك لها إدراكًا ويُشير إليها أحدهم فنثِق ونقفز ونُقرر مخالفةَ صوت أدمغتنا!
التعافي للشجعان: شجاعة تجاوُز خوف الحميمية والعبورُ نحو الآخَر، شجاعة الانكشاف والتعري والمصارَحة، شجاعة التفتح الذهني والإيمان بأنه ربما -ربما- أكون على خطأ، حتى إن لم أستطع أن أُدرك كيف ولا أين ولا متى، وأُجازف هنا بتجربة شيء مختلف، تجربة ما لا يمكن لعقلي أن يَستسيغه!
التعافي للشجعان!