نُشر من قَبل في المدوَّنة السابقة بتاريخ 21 مايو 2019
من أنا؟
سؤال الذات!
الذات..
اليوم صرتُ أراها شبكة من العلاقات، لا أراها كيانًا منفصلًا يدخل في علاقة بل الذات هي منتَج من منتجات العلاقات، أي لم أعد أرى الذات سابقةً على العلاقات، وإنما نتاجًا لها! لا وجود للذات دون الآخر.. دون العلاقات.. هي النتيجة النهائية للتفاعل، التفاعل بين ذوات مختلفة تسكننا.
ذات تُمثل الشغف، وذات تُمثل الاضطرار، ذات خائفة، وذات مبدعة، ذات متمردة، وذات كسولة! وصراع مع ذوات مررنا بها يومًا ثم استدمجنا داخل نفوسنا بعضًا منها: ذات الأم الحنون، والأم الناقدة، والأم المفعمة بخيبة الأمل التي تواري إحباطاتها وتبتسم عنوةً حينًا وحينًا آخَر تَصب علينا إحدى غضباتها ككيس رمل، وذات الأم الحالمة التي تستكمل أحلامها المسروقة فينا. وذات الأب المستوعب، والأب الغائب، والأب الصارم، والأب الجاف، والأب المحاكم، والأب الذي يحول استياءاته من صراع خارجي لا يرحمه نحو “بردعة” الصغار وأمهم!
وصراع مع ذوات تحيط بنا: ذوات متطلبة، وذوات داعمة، وذوات ذات احتياجات، وذوات تطالبنا بالتزاماتنا، وذوات تتوقع، وذوات لا تعول علينا أملًا! وذوات منتظَرة، وذوات مأمولة، وذوات نخاف أن يسقطنا يومًا حظنا التعس في طريقها!
ذلك الصراع بيننا وبيننا، التناوش بين كل تلك الذوات التي تسكننا يَخلق توترًا وقلقًا، يَخلق وترًا مشدودًا يمر بكل تلك النقاط الحرجة، نعم هو يَخلق حرجًا! هذا التوتر والحرج هو ما نحن عليه حقًّا، هو ما يمثلنا، هو ما نسعى للتعامل معه..
الوجود هو إجابة عن سؤال التوتر الداخلي ذلك، الإبداع هو حل لهذا القلق، التفاعل هو تفريغ، هو اكتشاف، هو اختبار للمساحات التي يميل إليها هذا الوتر المشدود.
تحقيق الذات هو “فرد” تلك الذوات المطوية فينا، وصهرها معًا في جدلية أُخرى مع الواقع، وصراع آخَر مع الكون، لنصل إلى الصيغة النهائية والمُركب الأخير الوليد الناجم عن تفاعل تلك العناصر داخليًّا مع بعضها وخارجيًّا مع الواقع. تحقيق الذات هو تلك الرحلة لاختبار البنية المعرفية والتكوينية لكل ذات من هؤلاء ولكل بصمة طُبعت على دواخلنا الصلصالية يومًا.
كل “ذات” من هؤلاء لها بقعة من نفوسنا، وموقع من رقعة مشاعرنا وأفكارنا ورؤانا، ولها حساباتها الخاصة في محاولاتنا الداخلية للوجود.
الذات النهائية هي نتاج شبكة من العلاقات، من تلك التفاعلات؛ الذات هي منتَج علائقي بحت ولا يمكن أن يُفهم “الأنا” بمعزل عن كل “هو” يَعبر بنا.
ربما حيرتنا في الإجابة عن سؤال “من أنا؟” هي نتاج التيه في فهم تفاصيل “الآخَر” التي تركها فينا، واستجاباتنا له، وما بذره في نفوسنا..
كل إجابة عن سؤال “الهوية” بعيدًا عن أسئلة الآخَر والعلاقات والمساحات البينية بيننا وبين الشخوص في قصتنا هو وقت ضائع وجهد مهدور؛ سنظل نبحث في الآخَرين لنجد أنفسنا.. ونبحث في أنفسنا فنجد الآخَرين!
فنتخلى عن خوفنا الأقسى من التعرض لمساحات الآخَر المؤلمة فينا ونجازف باستكشاف مناطق الحميمية الشائكة منا، فالوعي بالذات لن يتم إلا عبر الآخَر.
يقول سارتر: “الجحيم هو الآخَرون”، نعم.. قد يكون هذا صحيحًا..
ولكن كما أكرر دومًا: فيهم تَكمن الجنة أيضًا!
