نُشر من قبل في المدوَّنة السابقة بتاريخ 16 أغسطس 2019
لا أُخفي أنني قد جَبُنت قديمًا وانسحبتُ مبكرًا من طريق موحِش كنتُ أسير فيه وحيدًا، طريق وعر ومقفر ومؤلم، ولكن الطريق يسكنني!
واتَّضح في النهاية أن خوفي هو ما دفعني لاتخاذ أزقةِ الأمان والانتماء النسبي للطريق المزدحم المألوف، وحركني لصناعة مواءمات واعتقادٍ مرقَّع قد انبنى على خرافات، قد يبدو متناسقًا محكَمًا وأتمكن من ترويجه والمحاماة عنه، بل الظهور بمَظهر البطل العائد من ملاقاة الوحوش في الأحراش! ولكن الخوف لا يمكنه أن يصنع إيمانًا ولا يؤسس لرؤية. لذا هوى البناء وعاد الطريق المُخيف يناديني.
لا أدري هل أَضحى اليوم قلبي أكثر شجاعةً لسلوكه وأكثر قدرةً على تَقبل ثَمن وجيعة السير فيه والخروج عن الإيلاف أَم أن الجسد صار أوهن والروح كسيحة بندوب التجارب ورهبة تكرار لقاء الهول المختبئ هناك، والذي أعرفه وتذوقتُ منه نفحة! لكني أصبحت أُدرك أن طريقًا لم يُسلَك سأبقى مدينًا له، وكلَّ حُلم تم بتره سيبحث عن طرَفٍ تعويضيٍّ ذات يوم لدى حُلم نابت، وأنني لن أتمكن من كتم نداءات الطريق مهما حاولت، وأنني يجب أن أتقبل قدَري بشجاعة مع ارتعادات الروح داخلي ودعواتها بأن اهرُب وعِش بسلام!
وقدَري هو أن أسلك هذا الطريق لنهايته، وأن أقفز طوعًا نحو ظلمة الهاوية!
فإن سَيري القديم الحذِر فيه ودخولي المتوجس للمغارة المظلمة لم ينته بتمام استكشافها، لذا بقيت مساحات منها عالقةً في نفسي كملفات لم تحصل على حقها في الغلق المُشبع. وسرتُ أتشدق متفاخرًا ببضع خطوات سلكتُها داخل المغارة المخيفة، وبضع ندوب حملتها من هجمات وحوشها مواريًا خيبتي وساترًا حقيقة هروبي الفزِع بمجرد سماعي لزمجرة مَلِك الوحوش الرابض فيها.
خرجتُ من المغارة حاملًا رمحي الملوث بدماء بعض فئرانها الصغيرة وحاملًا بعض الرضوض والكدمات، ومتعثرًا بأحد الأنياب الساقطة من الوَحش بفعل الزمن، مُخبرًا الجموع أنني أنا من انتزعتُ أنيابه حين قطعتُ رأسه! ومتبجحًا بالقول بأنه لا حاجة لكم أيها المستعدون لخوض مغارة الشك في أن تَسلكوها فقد غلبتُ وحوشها، والحقيقة أنني فقط خطوتُ خطوات مترقبة لا أكثر، ثم هربتُ فزعًا حين بدأ الوَحش يقوم ويستعد لمنازلتي!
ولكني لم تزل تصيبني رعدةٌ فائقةٌ حين تدفعني الحياة رغمًا عني للمرور جوار المغارة.. وحين تأتيني رائحة أنفاس الغول الرابض فيها تحملها رياح المعاناة البشرية. الرجفة تتعاظم.. والرعدة تفوق رعدتي داخل المغارة، لأنها مساحة غير مستكشَفة، لأنها تجربة فشل وهروب في حقيقتها، هروب نحو الأمان المألوف، مُضفيًا على مساحة الأمان نوعًا من التعديلات و”الرتوش” لتَظهر مختلفةً أمام الجمع الناظر فيظنونها مساحةً مختارةً قد صنعتُها على علم واختيارات وتفضيلات، ولكنها أمانٌ تم ترقيعه، ومألوفٌ تم مسخه، وخرافةٌ بلا أساس تم تزيينها بمساحيق المصطلحات والبناء المنطقي فصارت شائهةً ربما أكثر من الخرافة المحضة!
والآن.. لم أعد أحترم رعدتي الخائفة كلما مررتُ بالمغارة، تدعوني لدَين لقائنا المؤجَّل، تناديني وتَسحرني لمعاودة الدخول وإنهاء ما لم أستطع إنهاءه.
لا أملك فكاكًا، وها أنا أخطو مرتجفًا مرةً أُخرى نحو جولة جديدة.. أُدرك جيدًا أنها ستكون جولةً عاصفة!
