نُشر من قَبل في المدوَّنة السابقة بتاريخ 22 يناير 2019
هل تكون تلك هي غريزتنا الأساسية حقًّا، جوعنا الأصلي الذي لا نستطيع أن نُعلنه؟ ومثل كل جوع لدينا وكل غريزة أساسية يمكنها أن تصاب بالمرض والعطب، يمكنها أن تتوحش ويمكنها أن تختل؟! هل يكون كل شيء حقًّا هو بحث عن المحبة، بكل ما تحتويه من قبول وتشجيع ومواساة وتعاطف وتعزية ودعم واتكاء ومساندة؟
هل يكون ذلك الطفل الذي يحمل شخبطاته لأمه مناديًا “انظري ماذا فعلت؟!” يبحث عن النظرة نفسها والشعور نفسه ويمارس الفعل نفسه الذي يمارسه رسام بارع أو كاتب مبدع حين يُخرج إبداعاته للعالم قائلًا “انظر ماذا فعلت؟!”
أوليس كل شيء حقًّا يقوم على بحثنا عن الحب.. وقلقنا من ألَّا نحصل منه على ما يكفينا؟ أوليس السعي للنجاح هو محاولة لتأمين بيئة من المَحبة؟ وتجميع المال هو محاولة أيضًا لشراء المَحبة والاحترام والقبول؟! واللهاث وراء الشهرة.. أليس في حقيقته طلبًا لإعلانات متعددة من المَحبة عوضًا عن مَحبة شخص نفتقده داخليًّا بشدة؟!
إننا كائنات تنمو في وسط من المَحبة.. نُزهر ونُثمر فيها فقط!
نسعى للبقاء عبر المَحبة، وتتعطل إمكاناتنا في بيئات الرفض والكراهية، يتحقق وجودنا فقط في تربة المَحبة؛ لا نحتاج لكي ننمو نفسيًّا إلى الغذاء والأكسجين قدْر احتياجنا إلى المحبة؛ هي غذاء النفس النامية.. هي قوت النضج وتحقيق الذات..
“وما الوطن بالنسبة لإنسان يتكوَّن؟ هو ببساطة مساحة صغيرة من دائرة نصف قُطرها الأيمن ذراع أبوي، والأيسر ثدي أمومي، ومحيطها هو حالة الاحتضان الشعوري والجسدي لتهدئة خوف الصغير من عالم غريب يُهدده. أي أن الأسرة ببساطة هي بيئة احتضان (تَهدَوِيَّة) لقلق مقابلة الوجود، يدخلها الإنسان لتحميه في البدايات لحين اكتمال نمو أدواته الخاصة التي يتمكن عبرها من مقابلة الوجود بشكل فعَّال وذاتي، أي أنها ضرورة بقاء”.
من كتاب أبي الذي أكره
لذا فأولئك الذين يتربون في بيئة تحرمهم تلك المحبة الصحية، الناشئين في التربة المالحة والسامة، يبقون عمرًا في لهاث وراء ما افتقدوه ليستكملوا نموهم؛ وهذا هو ما تمنحهم إياه النجاحات والعلاقات والعلاج النفسي كذلك.
“الإساءة تُجمِّد النمو في مراحله النفسية الأولى، وتَحرم الناشئ من تكوين جعبة أدواته لمواجهة العالم. لذا يخرج شاعرًا بالتهديد، وهو أكثر من ذلك التهديد الذي شعر به يوم أن جاء للعالم وعلم أن عليه مواجهة الوجود، فآوى إلى بيئة تمنحه احتضانًا مؤقتًا… يتخبط هذا الكائن المحروم من أدواته، مع خفقات القلب المرتعد داخله باحثًا عن تسكين لذلك التهديد أو تلاهٍ عنه. فيبحث عن ذلك في العلاقات حينًا، وفي الانعزال المفرط حينًا، وفي السلطة حينًا، وفي الشهرة حينًا، بل في الإدمانات أحيانًا..”
من كتاب أبي الذي أكره
أليس كل ذلك في حقيقته بحثًا عن بيئة من الحُب!
ليس بالضرورة أن يكون الحب بمعناه الجنسي، إنما ضوء المَحبة الساقط من عين أحدهم على وجودنا هو ما يساعدنا في عمليات التمثيل النفسي.. لننمو.
الحب وسيلتنا للبقاء، للتكاثر ولإعادة إنتاج الذات، وبالتالي هو وسيلتنا لمواجهة الموت والفَناء المحتوم، نفعل هذا على مستويين: المستوى الجسدي عبْر الحب العاطفي الذي يجعلنا نقترب من أحدهم، ثم الزواج فالتكاثر.
عجيب أن يكون “التكاثر” معناه: إعادة التوليد.. إعادة إنتاج الذات..
Re-production!
Re!
فحين نتزاوج ونتكاثر، ونُنتج الذرية، كأننا واجهنا موتَنا المحتوم بإبقاء بعض منَّا في الأرض، ويتم ذلك في وسط من المَحبة، لذا نلهث للحصول عليها، لأن غيابها مرادف للفَناء، نفر منه فرارنا من الموت. كأننا نحب من خلال غريزة البقاء! لذا كان الحُب أقوى من كل شيء!
ونفعل هذا أيضًا على المستوى النفسي، فسعينا لقبول الآخرين لنا ورواجنا بينهم يعني أن نجد وسطًا يَقبلنا وبالتالي يَقبل تحقق إمكاناتنا، ونمونا، وإظهار مخبوءات قدراتنا، وبالتالي تحقيق وجودنا.
نسعى عبْر الحب غير العاطفي، عبر المكانة والشهرة والمال والنجاح والإبداع، أن نحصل على اعتراف الناس.. ومحبتهم.. لنُثمر هناك. كأننا نبحث عن تناسل لأفكارنا، وبقائنا في عقولهم، نحاول هزيمة الموت على المستوى المعنوي أيضًا؛ نسعى للبقاء بعد الفَناء، البقاء بالفكرة لا بالذات، وبالاسم إن لم نتمكن من البقاء بالجسد. ربما لذا يُحبطنا الرفض ويؤرقنا النقد لأنه يعني الخطر، خطر غياب الوسط المُحب والبيئة المساعدة على نمونا أكثر وتحقيق إمكاناتنا.
ثلاثة أنواع من الحب ينبغي أن نحصل على كفايتنا منها، فإن لم يحدث ذلك فلا بد أن نضطرب:
1. الحب الأصلي، حُب الوالدين وبيئة التنشئة.
2. الحب العاطفي/ الزوجي، حُب الرفيق والشريك.
3. حُب الناس/ حُب المحيط، الانتماء إلى جمعٍ ما.
“حقيقة كبرى: إن الفرد منا لا يمكن أن يُحِب ذاتَه حبًّا صحيًّا إلا إذا تلقَّى أولًا حبًّا صحيًّا، تمامًا كاللغة”.
من كتاب أبي الذي أكره
وكل فجوة في أيٍّ منها قد تصنع نهمًا فيما عداه، فالمفتقدة لمَحبة الأب لا عجب أن تتورط في الأوغاد إدمانيًّا ولا تستطيع الفكاك، والمفتقد لبيئة المَحبة الأولى قد يسعى لانتزاع النجاح بكل الطُّرق طمعًا في المَحبة الثالثة.
إننا كائنات تقتات على الحب، وكلما افتقدنا نوعًا سعينا لتعويضه عبْر نوع آخَر. وبالحب نواجه الموت، وبافتقاده نهلع كمَن يواجه الفَناء وحيدًا!
الحُب قرينُ غريزة البقاء فينا، فلا عجب أن يهزم العقلَ والمنطقَ والتدابير بأَسرها! له سُلطة فوقية لا يمكن لأحد أن يستعلي عليها.
(من وحي كارل روجرز والمذهب الإنساني في العلاج، ومارتن بوبر ومدرسته الفلسفية، وآلان دو بوتون وكتابه قلق السعي نحو المكانة، الحالة التي أشعر أن مشيئة الله تغمرني بها في هذه المرحلة بطرائق مختلفة).
*** *** ***
*وهذه بعض إضافات عن المَحبة الشافية مقتبَسةٌ من كتاب “أبي الذي أكره”:
تلك المَحبة غير المشروطة تشفي. والأمر غير متعلق بحُب رجل لامرأة والعكس، ولا نقصد به بالضرورة العلاقات العاطفية، بل إن التركيز على انتظار علاقة عاطفية وحبيب منقذ كتجربة تصحيحية وحيدة هو من أوهام الناجين، ومن الأمور التي تُسقطهم -عادةً- في قهر التكرار والانجراف بتوقعاتهم في بئر علاقة مؤذية وخيبة أعظم.
شيء ما داخلي كان يُصدق الحبَّ نعم، ربما، ولكنني لم أكن أرى له ذلك البُعد الأسطوري والماورائي والسِّحري قَط، بل كنت أرى تلك المعتقدات نوعًا من المراهقة النفسية والنزق الوجداني وأقرب للضلالات الذهانية منها للنظرة الواقعية للوجود. فطالما رأيتُ النضج النفسي متعلقًا بالواقعية الصارمة الخشنة، وأول مبادئ الواقعية هو وضع الأمور في نِصابها والاعتراف بمحدودية العاطفة وقدراتها. كنت أرى الحب قد يصنع زواجًا أو بيتًا، وربما يصنع صداقة تدوم قليلًا! وربما يصنع قتلًا أو غصبًا كأثرٍ جانبيٍ لشعورٍ لا يخضع تمامًا للمنطق والقواعد حتى الأخلاقية منها، ولكنه لا يُغيِّر النفوسَ ولا يمكنه أن يصنع معنًى حقيقيًّا للحياة. حتى عرفت المَحبة (وهي لفظة أكثر شموليةً وحيادية من الحب) المَحبة التي لعمقها قد حدت البعض أن يعتقد -في مغالاة لا نقرها- أن بها قامت السماوات والأرض، وبها منحنا الله الحياة نفسَها وأنفاسها، وبها صدر عن الواحد كثرة.
“أَحب اللـهُ الكونَ فكان”. المَحبة مساحة غير متجنِّسة، والأهم أنها غير مشروطة. فالفوارق بين المَحبة وما سواها من أشكال الهوى والغرام والحب أنها بغير شروط، وأنها دون غرض، وأنها بغير انتظار لمقابل ولا ابتغاء -أحيانًا- لمقابلتها بمثيلها.
وهي ليست سهلةً كما تبدو، فالكتابة عنها أيسر كثيرًا من ممارستها وربما أيسر كثيرًا من إيجادها وتلقِّيها. تلك المَحبة التي هي بوابة الغيب، لها قدرة عجيبة على الشفاء، لا يمكنك أن تتخيل ما الذي يمكن أن يُحققه إنسان إن شعر فقط بأنه محبوب حُبًّا غير مشروط.
وإن التقدم الروحي والنمو النفسي والتعافي يتعلق في أعمق صوره باتساع مساحات المَحبة منَّا، بأن نصبح قادرين بشكل أكبر على منح الحب، وعلى تلقِّيه. هي تحتاج قدرةً استثنائيةً في المنح، وقدرةً استثنائيةً أيضًا لتُمكننا من استقبالها إن توجهت يومًا نحونا. فافتقارنا لمثلها جعلنا غير قادرين على منحها لأنفسنا أو للآخرين، وجعلنا كذلك غير قادرين على استقبالها إن توجهت نحونا ذات حظٍّ حَسن. إن تلقي المَحبة ملَكةٌ وإمكانٌ نفسي نفتقده؛ جعلتنا التجربة نعاني من عطبٍ في مستقبِلات المَحبة. وكل العجب أن ما يعالِج عطبَ الاستقبال هو صبر المَحبة نفسها! كأن المحبة الصبورة الثابتة -رغم الرفض أحيانًا- مع الوقت تُنشئ في متلقيها مستقبِلاتِ التلقي التي ضمرت فيه، فتَشفي عدم قدرته على تلقي المَحبة، فيستشعرها ويؤمن بها، ويتلقاها، ويستجيب بمثلها! كأنها تنشئ لديه الإمكان الجديد، وهو إمكان منحِ ذاتِه وللآخر، بل ربما الاحتياج إلى المَنح!
للمَحبة تلك القدرة الشفائية.. في المَنح والتلقي معًا. ومانح المَحبة بلا تلقٍّ معطَّل الشفاء، ومتلقيها بلا مَنح متجمد الروح. ومعطوب المَنح والتلقي مسكين محروم يتجلى حرمانه في اضطراباتٍ وتعثراتٍ تحمل ترجمات عرَضية متنوعة، وأصلها واحد وهو جوهر العطب في المَحبة ومرتكز الحرمان!
وإظهار المحبة قوةٌ لا ضَعف. وأهل المحبة غير المشروطة هم الشجعان حقًّا، فكل الناس يحب مَن يحبه ويحسن إليه، ولكن ليس كلهم يَقدر أن يحب مَن لا يتوقع منه المبادَلة، ولا ينتظر منه نفعًا ولا يرتجى منه حفاوةً بل ربما مَن لا يحبه، وليس كلنا يَقدر أن يحمل المَحبة تجاه من يُسيء إليه.
كل دين لا يُنبت المَحبة هو دينٌ قد أُسيء فهمه. وكل تعافٍ لا تُظلله المَحبة بأبعادها تلك لا يدوم أثره. بل كل علاج لا يؤدي لترسيخ المَحبة في متلقيه هو محض تحفيز وتعديل لا يلبث أن تبرد حرارته وتنمحي منحوتاته. وكل عبادة لا ترتكز على مَحبة الله للمرء ولا ترى العلاقة أساسها تلك المَحبة ستصير شعائريةً خاويةً لا تُسمن روحًا ولا تُغني من جوعٍ وفراغٍ للمعنى.
وليس كلنا يتمكن من حمل المَحبة غير المشروطة ناحية مَن لا شيء لديه ليُحبه الناس عليه ومَن لا يرى أنه مستحقٌّ لمثلها. ومن جمال المحبة الحقة أنها لا تحتاج إلى تعبير أو إشارة أو تلميح، فالمحبة الحقة تسري دون اللفظ ودون المنطوق والملاحَظ، تسري في تلك المساحة بين روحين فتداوي دون أن تتكلم وتشفي دون أن تُحدث صخبًا!
وهناك في تلك المساحة الشافية نصبح للمرة الأولى آمنين داخل جلودنا، وتتشكل لنا هيئةٌ وهويةٌ وهدفٌ! وأخيرًا قد تنبع بداخلنا بئر ضخمة من المَحبة، المحبة للجميع: للكون وربه ومكوناته، المَحبة للضعفاء والجرحى والمنكوبين. وربما بعضٌ منا قد يتحسس ندبته الأبرز فيقرر أن يلتفت ويعود للميدان ثانيةً باحثًا عن جريحٍ حديثِ العهدِ بجُرحِه، ولم يزل نزفُه طازجًا فيخبره رغم كل الكفر والتخوف الظاهر بعينيه الهلعة صائحًا أن هناك ضوءًا ما بنهاية النفق: “قد كنتُ هنا من قَبل، آمِن!”

ممكن تشرح دي ف فيديو يادكتور لو سمحت او المقال كله انا خوفت اكون من الفئة دي !!
للمَحبة تلك القدرة الشفائية.. في المَنح والتلقي معًا. ومانح المَحبة بلا تلقٍّ معطَّل الشفاء، ومتلقيها بلا مَنح متجمد الروح. ومعطوب المَنح والتلقي مسكين محروم يتجلى حرمانه في اضطراباتٍ وتعثراتٍ تحمل ترجمات عرَضية متنوعة، وأصلها واحد وهو جوهر العطب في المَحبة ومرتكز الحرمان!
هو حملنا للحب تجاه من يسيئ الينا دة مش ظلم وقهر للنفس !! انا لية تايهة كدة في المعاني المختلفة دي
هل حضرتك بتقصد شعور المحبة فقط مع ترك مسافات امنة طيب
وإظهار المحبة قوةٌ لا ضَعف. وأهل المحبة غير المشروطة هم الشجعان حقًّا، فكل الناس يحب مَن يحبه ويحسن إليه، ولكن ليس كلهم يَقدر أن يحب مَن لا يتوقع منه المبادَلة، ولا ينتظر منه نفعًا ولا يرتجى منه حفاوةً بل ربما مَن لا يحبه، وليس كلنا يَقدر أن يحمل المَحبة تجاه من يُسيء إليه