اكتشافٌ صادِمٌ اكتشفتُه اليومَ: منذ زمن بعيد -يَصِل إلى أكثرَ من ثلاث سنوات- لَم أُجرِ حوارًا عاديًّا أو طبيعيًّا أو إنسانيًّا عفويًّا مع شخص ما، لا تحكمُني فيه إملاءاتُ أُطُرٍ علائقيةٍ أو سياقاتُ اللقاء، بين طبيب ومتطبِّب، وسائل ومسؤول، ومُعين ومُستعين، ومُشير ومستشير، ومُعلم وتلميذ، ومُبتدئ وخبير.. وهكذا.

وقد اكتشفتُ -بكل أمانة- كيف أن هذه الأُطرَ العلائقية وأحكامَ السياقات -وإن كانت حاميةً ومهمةً- لكنها تتعدَّى مساحاتها وتتوحَّشُ لتَصبِغَ كلَّ علاقتك بالبَشر؛ فتختزلُك وتختزلُهم. وكأنني نسِيتُ كيف يمكنني أن أتعامل من خلال السياق الأصلي (أنا – أنت)، (بَشريٌّ متلعثِم – وبَشريٌّ آخَر متلعثِم)!

وقد وجدتُ الحوارَ العفويَّ (العادي) لطيفًا وغريبًا في آنٍ واحد! لم أكُن الشخصَ مستديمَ الوقوف على مِنبره، المستعدَّ للسؤال، القادمَ للعون، ولم أكن -كذلك- الطالبَ النابهَ كثيرَ التدقيقِ المتلهفَ للبحث والتنقيب. لم يكُن عاديًّا أن أحظَى بالعادي!

إنما كنتُ -فقط- هناك مازحًا ومستمِعًا وتلقائيًّا؛ أسأل عن معلوماتٍ تافهة، وأندهش، وأتفاجَأ، وأخجل وأتلعثم. والحقيقة أنني وجدتُ صعوبةً بالغةً في هذا، وتلك الصعوبةُ هي بذاتها ما منحني هذا الاكتشاف!

فمع متعةِ تلك اللحظات، إلا أنني اكتشفتُ أنني لَم أحظَ بها منذ أعوام، نظرًا لهوس التحصيل وجِدية التواصل، ووضوح أغراضه وأُطُره وحدودِه التي أصبحتُ أَصبغ بها كلَّ تعاملاتي، وصرامتي الخشنة التي أصبحتْ تُشكِّل عائقًا أمامَ عفويةِ الآخَر معي. ناهيك عن ذلك المزاحِ المدروس والابتسامةِ المقنَّنة في لحظات الأداء.

لم أَعُد إنسانًا إلا مع زوجتي وأطفالي، وربما -أحيانًا- أتحوَّل إلى مُعالِج ونفساني وكاتب هناك أيضًا! أصبحتُ مُحاوِرًا، ومستمِعًا بإنصاتٍ مَنهجيٍّ نشِط، ومؤَديًا اجتماعيًّا جيدًا؛ غابَت عني دهشةُ الأطفال، وتطفَّل بدلًا منها فضولُ الباحث، فاختلطتْ ملامحُهما عندي. غاب عني الإعجابُ والانبهارُ.. والحب!

يبدو أن التحليلَ النفسي قد يمنحُكَ العِلمَ ويَفيض عليك بالفهم، ولكنه يَسلب منك البساطةَ والتلقائية، ويَرفع عنك متعةَ التخبط والبعثرةِ اللحظية، ويَصبغ علاقاتك بميكانيكيةٍ جافة وإن بدَتْ مُفعَمةً بالانفعال، ويَعجنها بآليةٍ “مَعملية” مُعقَّمة مهما بدَتْ مُتعاطِفة ومُنغمِسة! ويبدو أن ذلك قدَرٌ لا مناص منه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

0