تأملْ مبدِعًا أو مفكرًا أو صانع محتوى تابعتَه منذ بداياته، ستجد أنه في أثناء خروجه من مرحلة الإنتاج الأوَّلي نحو الانتشار قد مر بأزمة ما لا محالة: أزمة التكرار. يختلف المبدعون فيما بينهم في قدرتهم على إدارتها بحكمة، مما يؤثر بشدة على مآلات طرحهم، بين الخفوت السريع كفقاعة لحظية، وصعود متأنٍ وبقاء في مستويات متزنة من النجاح.
1- المرحلة المبكرة (نواة الطرح):
حين يكون لدى الكاتب -أو المبدع أو المفكر الصاعد أو صانع المحتوى- في مرحلة ما مبكرة طرحٌ جادٌّ ومختلفٌ على منبره الخاص، ولكن برواج قليل، لديه طائفة صغيرة من المستمعين -أو القراء- الذين يتذوقون طرحه ويلمسهم، وتتنامى هذه الفئة تدريجيًّا بفعل المشاركة واللوغاريتمات وغير ذلك.
2- ثم ندخل في المرحلة الوسيطة:
وهي خروج هذا المؤلف (صاحب الطرح) بعد مدًى من رواجه إلى المنصات المختلفة غير منبره المعتاد (كتبه، قناته، ..) على قنوات الآخرين المسموعين أكثر، وفي البرامج أو الصحف، أو حتى رواج منبره واتساع رقعة وصول فِكره وطرحه.
وهو هنا يكون قد سقط في معضلة (وجدلية إبداعية قد تُسهم في موته وذبوله أو تُحلِّق به نحو مزيد من نمو إنتاجه) معضلة لا يدركها المستمع، فصاحب الطرح يكون بين مطرقة وسندان:
- رغبته في الوصول بطرحه -الذي طرحه بالأمس على فئة صغيرة من منبره الخاص- إلى مساحات أوسع من المستمعين. فطرحه الأساسي هو عُدته الأساسية ومرتكز فِكره، فيحاول أن يصل بأطروحات الأمس إلى مستمع جديد صار يصل إليه صوتُه اليوم!
- ومن جهة أخرى يحتاج أن يُطور فِكره ويطرح جديدَه ويُضيف لِما صنعه وقدَّمه بالأمس، ويمنح طائفة الأمس طرحًا جديدًا، ويستكمل بناءات متتالية ومنبثقة من أصل أفكاره وفي الوقت نفسه تجعل (المتابعين القدامى) يجدون إضافةً ويستكملون متابعته لاستمرارية عطائه، ولا يستشعرون أنه قد استنفد ما لديه، وغارت بئر طرحه، وجفت عيون فِكره!
وهنا تكمن المعضلة:
بين رفضِه تركَ أفكار الأمس دون أن تصل إلى أسماع جديدة، فهو مضطر لإعادة عرضها! وبين كونه ينمو ويكبر ويتناسخ وينضج ويُنقح من نفسه وتظهر لديه تطويرات وقراءات جديدة، ربما تنبني على طرح الأمس فيحتاج العروج عليه، وربما هي جديدة كليًّا ولكنها تفتقر لبساطة طرح الأمس ومركزيته، وقد تلائم جمهوره القديم بما تحمله من جِدَّة وتنوع وإضافة، ولكنها لا تلائم المستمع الجديد الذي وصل إليه لتوه بما تحمله من تعقيد أكبر، وجذور في تأسيسات أطروحات الأمس!
وهنا يدخله الشعور بالحيرة والاغتراب، بل ربما تؤدي تلك المعضلة لركود إنتاجه أو شلل في نموه، ما بين كونه مأسورًا في ولائه لأطروحات الأمس التي لم تجِد الحفاوة العادلة، ورغبته في إنتاج جديد يُخرجه من القولبة والتكرار وإعادة التدوير!
”كتبتُ هذا الكلام من وحي شعوري بالحيرة حيال نشر أفكار طرحتُها قديمًا -سواء في سلسلة التعافي أو في كُتبي- متبلورةً ومَصوغةً جيدًا في منصات جديدة ومنابر أصبحت متاحةً أكثر، وبين رغبتي المحترقة في الأصالة وإنتاج المزيد والجديد، وكراهيتي للتكرار، وولائي للقارئ والمتابع القديم الذي يستحق أن يجد جديدًا وأن نخطو سويًّا خطوةً أعمق”.